إبراهيم الهلباوى اشهر واعظم المحامين الذين أنجبتهم مصر إلا ان خطأه الوحيد سطر بحروف من دم فى تاريخ القضاء .
ان الهلباوى نموذج للبطل الملحمى الذى يخطئ مرة واحدة ، فتودى به خطيئته ، ويظل يجاهد العمر كله لكى يحصل على الغفران فيوصد الشعب قلبه دونه ، ولايراق له ، وهو الشعب الطيب ، الحنون ، الذى طالما غفر لكثيرين ، وعفى عن كثيرين .
فالهلباوى والذى اشتهر بلقب جلاد دنشواى عمل مدعياً عاما ضد الفلاحين فى الحادثة الشهيرة التى جرت وقائعها يوم 16 يونيو 1906 .
ذلك رجل تغنى به الناس دخل حياتهم اليومية ، قالوا فيه الأمثال ، وروا عنه الفكاهات والأساطير ، أحبوه كأعظم ما يكون الحب ، وكرهوه كأعظم ما يكون الكره ، يقول فلاح لأخر محتدًا : “ والله لأقتلك وأجيب الهلباوى “ ، ذلك أنه مهما كان المجرم والجرم ، فإن الهلباوى قادر على الحصول على البراءة ويذهب إبن بلد إلى الجزار ليشترى ربع أقة من اللسان ويهوله الثمن المطلوب ، فيصيح : “ ليه .. هوا لسان الهلباوى “ .. ذلك أن الرجل كان بليغًا كأعظم ما تكون البلاغة ، فصيحًا ، قادرًا على المناظرة ، يناقش رأيًا فيدعمه بألف دليل ، ويناقش ما يناقضه ، فيدعمه بألف ألف دليل .
رجل كان ينتمى لعصر غريب ، القدر على الكلام فيه أعظم القدرات ، وربما كانت القدرة الوحيدة ، وصفه معاصروه ، فقالوا أنه كان “ أبلغ طلاب المرحمة طوال أكثر من نصف قرن “ ، ذلك رجل كان يقف فى المحكمة فيهز مصر كلها ، إذا ما أراد أن يستثير عواطف القضاء وحوح وولول وبكى وذرف الدموع .. وقد يبكى بعدما يضحك ، أو يقطع النحيب ليضحك بأعلى صوته .
وحتى فى ملامح جسده ، كان نموذجًا للعملاق ، طويل القامة جدًا ، عريض الكتفين ، ملامح وجهه البيضاوى بين الأسمرار والأحمرار ، كل شئ فيه طويل .. شاربه ، ذراعاه ، كتفاه ، أنامله ، وبالطبع لسانه .. عمر حتى زاد على الثمانين .. شاخ كل شئ فيه ، وهن عظمه ، وأشتعل الرأس شيبًا ، شئ واحد بقى قويًا فيه .. لسانه !!
ذلك الرجل الأسطورى ، الذى كان القطار ، يقف له حيث لا يقف لأحد ، فى محطات صغيرة ، أو على مشارف المدن الكبيرة ، والذى قام قطار خاص مرة لكى يقله إلى جلسة فى إحدى المحاكم ، طلب وده ملوك وأمراء ، وكسب مئات الألوف من الجنيهات وخسرها كلها فبدأ من جديد .. ومات وهو مستور أو يكاد .
محامى “ الظروف المخففة “ ، الذى يلتهم العذر للمتهم المدان ، يقامر بكل شئ فى “ القضايا اليائسة “ ، وينجح دائمًا فى فك حبل المشنقة عن عنق المتهم الذى ثبت عليه الإتهام ، لكنه برغم هذا كله ، لم ينجح فى إلتماس العذر لنفسه من الشعب ، وعلى إمتداد ثلاثين عامًا طويلة حاول يكفر عن ذنب إرتكبه ، مستخدمًا كل طاقاته المذهلة ، كل فصاحته ، لسانه الذهبى ، قدرته الفذة على المناظرة ، لكى يقنع رجل الشارع ، الجاهل ، الأمى ، الذى تبهره البلاغة ، يقنعه ببراءته ، أو حتى توبته ، ففشل .. وكان فشله دليلاً تاريخيًا على أن الشعب طيب حقيقة ، ولكنه ليس ساذجًا .
يقول يحيى حقى : مسكين إبراهيم الهلباوى .. هذا الرجل الذى كانت شهرته مضرب الأمثال .. لا أعرف أحدًا من ساسة مصر ، تجرع مثله العذاب علقمًا .. وصابه كأسًا بعد كأس .. سنين طويلة تكاد تكون هى عمره كله .
ولد إبراهيم الهلباوى لأسرة “ مستورة “ وهو تعبير مصرى خاص ، يعنى أنها أسرة لا تبيت جائعة ، ولكنها أيضًا لا تبيت ممتلئة المعدة تمامًا ، كان والده مغربى الأصل ، تمصر وأقام ببلدة العطف “ المحمودية الآن “ بمحافظة البحيرة ، وعندما بلغ إبراهيم الثانية عشرة ، ودع أسرته وشد الرحل إلى القاهرة لكى يتزود من العلم بالأزهر .
كان الأزهر أيامها محط كل الذين يرغبون فى التزود من العلم ، وكل الذين يريدون لأنفسهم مهنة تحميهم من السقوط فى هوة الفقر ، وكانت تلك سنوات الخديو سعيد الأخيرة ، والأجانب يملأون مصر ، والشاب الريفى القادم من بلد “ العطف “ يحلم بمستقبل سعيد ، يتعلم أصول الفقه على المذاهب الأربعة ، ويرفض “ المالكية “ لأن شيخهم لم يعجبه ، ويذهب إلى “ الحنفية “ ، وفى دروس النحو والمنطق والبلاغة يشاكس الشيوخ فيطردونه من الدرس فينتقل إلى عمود آخر .
فى بداية 1870 كان قد مضى عليه أربع سنوات يدرس فى الأزهر ، عندما حط رحاله فى مصر رجل غريب إسمها “ جمال الدين الأفغانى “ كان موزع ثورات وناشر قلاقل ، ومفكرًا مقلقًا للذين يحكمون ولم يحكمونهم .
وفى قهوة متاتيا بميدان العتبة حيث تعود أن يجلس ، وفى منزله حيث تعود أن يلتقى بتلاميذه ، تعرف عليه الهلباوى ، كان الأفغانى قد ساح سياحته الطويلة فى بلاد المسلمين ، يتحدث عن الثورة ، التى يحلم بها ضد الإستعمار الأوروبى ، وعن الإحتجاج الذى لابد أن يشمل علماء المسلمين فيخرجهم من التبعية الآلية للسف صالحًا كان أو طالحا ، ويسمح لهم بإستخدام عقولهم ، لتفسير الدين تفسيرًا يخدم الحياة ، ويفيد فى بناء دولة إسلامية قوية.
وفى الأزهر – ثم فى قهوة متاتيا وفى منزله – ألتقى الأفغانى بالرجال الذين أصبحوا فيما بعد ، أخلص تلاميذه ، والذين أثروا فى تاريخ مصر كما لم يؤثر جيل آخر – ألتقى بمحمد عبده وعبد الله النديم وسعيد زغلول ، وعشرات غيرهم من مثقفى الجيل ، وكان أصغر هؤلاء جميعًا هو إبراهيم الهلباوى .
وتمر سنوات وهو يتعلم من الأفغانى كل ما يدعو إليه ، فينبهر بالمنطق الجديد الذى جاء به ، لقد حلل الشيخ الفلسفة وكانت حرامًا على أعمدة الأزهر ، وتحدث فى السياسة وتنظيم الأمم والشوى .. والسنوات تمر .. والنقود تأتى من قريته “ العطف “ لتذوب فى جولاته الطويلة .. وهو لا يدخل الإمتحان ويؤجله عامًا بعد عام .
فى تلك السنة ، خلع الخديو إسماعيل عن العرض بإرادة الدول الأوروبية وتولى الخديو توفيق “ أريكة الخديوية “ فأسند الوزارة إلى مصطفى رياض باشا .. فكان أو ما فعله أن نفى الأفغانى من البلاد .. لكنه بعد شهور كان يسند إلى الشيخ محمد عبده منصب رئيس تحرير الوقائع المصرية ويختار الشيخ محمد عبده عددًا من مريدى الأفغانى ليساعدوه فى تحرير الوقائع .. عبد الكريم سلمان و سعد زغلول و إبراهيم الهلباوى .. ويكتب إبن “ العطف “ فى الجريدة الرسمية للحكومة ، لكنه بعد فترة يبدأ فى إثارة المتاعب : كيف يعطى عبد الكريم سلمان عشرة جنيهات فى الشهر ، وسعد زغلول ثمانية ، ويأخذ خمسة .. وينتهى الخلاف ويترك العمل فى الوقائع .
ويعود إلى قريته “ العطف “ بلا “ عالمية “ و لا “ عمل “ وليس لديه إرث يعتمد عليه ولكن لديه عقلاً دله دائمًا أنه يستطيع أن يصل ، وبدأ فى تجربة حظه فى التجارة فى سوق القطن ، واليونانيون يملأون القرى ، يجمعون القطن ويتاجرون فيه ، لكنه لم ييأس مع ذلك ، وأستمر فى عمله .
وفى بلدة مجاورة لبلدته كانت هناك أرض يملكها رياض باشا ناظر النظار ، وحدث أن طغت مياه الفيضان عليها وكعادة ذلك الزمان سخر وكيل المديرية الناس لمقاومة ذلك الفيضان وإنتهزها فرصة للإنتقام من خصومه ، فحشر فى صفوف المسخرين بعض أبناء البيوتات المستورة .. ولم يعجب الحال الهلباوى ، فكتب مقالاً شديد اللهجة ندد فيه بصاحب الأرض وبوكيل المديرية لأنهما يسخران الناس ، وأسرع فأرسله إلى جريدة “ التجارة “ ، وهاج رياض باشا وأمر بأن يرسل إليه “ الهلباوى “ مصفودًا .. وأستقبله المدير مهددًا ومتوعدًا وقال له فى نهاية حديثة الوعيد الطويل : أن لم تكف عن هذا خرب بيتك ، فرد عليه الهلباوى قائلاً : أنك لن تستطيع .. لا أنت ولا أكبر منك يستطيع .. أستفهم المدير مستنكرًا فى لهجة وعيد “ ولا أكبر منى “ ، شعر الهلباوى أنه أراد أن يأخذ عليه أهانة رياض باشا الذى لا يوجد أكبر من المدير سواه ، فتخلص بإحدى قضايا المنطق قائلاً “ أنه لا بيت لى تخربه ، والقدرة لا تتعلق بالمستحيل “ .. ها هو جزء مما تعلمه من دراسته فى الأزهر يطفو ، لكنه يوظفه فحسب لإنقاذ نفسه ، رجل بلاغة هو ، قد يورده لسانه موارد التهلكة ، لكنه قادر على إنقاذه .. وهذا هو الهلباوى .