قد لا تبدو المقارنة منصفة أو عادلة، لكنها قد تكون ضرورية لنعرف كيف يفكر العالم، وإلى أين تتجه المنافسة على المستقبل، فبينما أعلن وزير التعليم العالي والبحث العلمي د. خالد عبد الغفار أن ميزانية البحث العلمي في مصر زادت إلى ٢١ مليار جنيه هذا العام، أي نحو ١٫٢ مليار دولار، نجد أن شركة مثل “أبل” تعلن التزامها بإنفاق أكثر من١٠ مليارات دولار على البحوث والتطوير خلال ٢٠١٨، بينما أنفقت شركة مايكروسوفت خلال الربع الأخير من ٢٠١٧ فقط نحو ٢٫٤٦ مليار دولار.
وقد يقول البعض أنه لا مجال للمقارنة بين ما تنفقه الدول على البحث العلمي، وبين ما تقوم به الشركات العالمية العملاقة من إنفاق سخي على البحث والتطوير، لكن تلك الأرقام تعطينا لمحة واقعية حول حقيقة المنافسة العالمية، وكيف تحول البحث العلمي والابتكار إلى رأسمال عالمي، تتنافس الدول والشركات الكبرى على امتلاكه.
والحقيقة أنه ورغم امتلاك مصر لبنية تحتية علمية تبلغ 11 مركزا علميا تابعا لوزارة البحث العلمي، و١٥ مركزا تابعا للوزارات والهيئات الأخرى، و٣٠٠ مركز بحوث وتطوير بالشركات والمصانع، و ٤٢٢ مركزا بالجامعات الحكومة والخاصة، إضافة إلى قاعدة من الكوادر البشرية العاملة في مجال البحث العلمي قدرها وزير التعليم العالي بـ ١٣٤ ألف باحث تقريبا من العاملين فى الجامعات والمراكز والمعاهد البحثية، و١٩٠ ألف باحث من طلبة الماجستير والدكتوارة، إلا أن مصر لازالت أقل من المعدل العالمي لعدد الباحثين لكل مليون مواطن.
ولا يقتصر العجز فقط على الكم، إنما يمتد كذلك إلى الكيف أيضا، في ظل عدم توافق جودة مخرجات الكثير من الأبحاث والمشروعات العلمية مع المعايير العالمية في هذا الشأن، إضافة إلى تدني معدلات الانفاق على البحث العلمي، حيث تعد مصر من أقل دول العالم انفاقا في هذا المجال رغم الزيادات الأخيرة، ورغم أن الدستور الحالي ينص صراحة على أن تكون مخصصات البحث العلمى فى مصر١٪ من الناتج المحلى بعد أن كانت مخصصاته تعادل ٠٫٣٤٪ من الدخل القومى عام ٢٠١١، ارتفعت عام ٢٠١٢ إلى ٠٫٥٤٪، وواصلت الارتفاع إلى ٠٫٦٨٪ عام ٢٠١٣، وإلى٠٫٧١٪ عام ٢٠١٤، وحوالى ٠٫٨٪ عام ٢٠١٥، وهي نفس النسبة تقريبا في ٢٠١٧.
الأزمة لا تقتصر كذلك على محدودية مخصصات البحث العلمى، بل تمتد أيضا على سوء التوزيع، حيث توزع بين 3 بنود.. الأول هو بند الأجور ويلتهم وحده حوالى ٧٥٪ من تلك المخصصات، والبند الثانى هو المصروفات الإدارية يخصص لها فى الغالب ١٥٪ من إجمالى المخصصات، وهكذا لا يبقى للبحث العلمى سوى حوالى١٠٪ من المخصصات للأبحاث.
هذا الواقع الصعب للبحث العلمي في مصر لا يتوافق مع متطلبات المستقبل، الذي سيكون العلم فيه والابتكار هما سلاح المنافسة، خاصة أن البحث العلمي قادر على توفير الكثير من الحلول المستدامة، والأقل تكلفة لمواجهة متطلبات التنمية، سواء في مجالات تطوير الصناعة، او الاستفادة من الموارد المتاحة مثل الطاقة الجديدة وتحلية مياه البحر، وإيجاد الحلول التكنولوجية المتكاملة، وهي كلها أمور تجاوز الاحتياج إليها مرحلة الرفاهية، ودخل في طور الضرورة.
الأمر إذن يحتاج إلى تعامل استراتيجي مع ملف البحث العلمي، وتحقيق الشراكة الغائبة بين القطاعات الصناعية، وبين المؤسسات البحثية، بحيث يتجاوز الأمر مسألة المبادرات الفردية والوجاهة الاجتماعية، ليكون عملا حقيقيا مبنيا على المنفعة المتبادلة، والتعاون الحقيقي الذي يبني المستقبل بعيدا عن البيروقراطية والأبحاث المعلبة التي لا تجد مكانا لها سوى أرفف المكتبات، أو أدراج المكاتب.