هو نوع من التدين يهتم بالشكل دون الجوهر، ويغرق فى التفاصيل فتضيع منه الكليات، ويضيع منه تكاملية الدين وروحانياته، يجعل الطقوس الدينية غاية فى حد ذاتها، فيتوقف عندها، ولا يرى ما بعدها من غائية الكدح إلى لله بغية ملاقاته.
وتصور الإله عند المتدين تدينا وسواسيا أنه محاسب لا يهتم إلا بالأعداد والأحجام والهيئات أو مراجع حسابات. يتصيد الأخطاء، ويبحث عن الهفوات، مهما كانت صغيرة، ويفترض سوء النية فيمن يراجع وراءهم، فالجميع لديه مدانون حتى يثبت العكس، ولذا يتحول الدين عند الوسواسى إلى مجموعة من الأوامر والنواهى والطقوس.
وعلاقة الوسواسى بالصورة الوالدية علاقة تحفل بالتناقضات، فهو يحب أحد الوالدين أو كليهما ويكرهه أو يكرههما فى ذات الوقت، أو على الأقل يخشى بطشه أو بطشهما، فيظهر المبالغة فى إرضائهما والطاعة لهما.
وينتقل نموذج العلاقة بالأب »الأرضى « إلى العلاقة بالرب »السماوى «، فيغلب عليها الخوف أكثر من الرجاء والتوجس أكثر من الطمأنينة، وتوقع العقاب أكثر من انتظار الرحمة.
وفى نسبة غير قليلة من الوسواسيين نجد أنهم عانوا فى طفولتهم المبكرة من نموذج الوالدية الناقدة، بمعنى أن أحد الأبوين أو كليهما كان شديد الانتقاد والتعنيف للطفل ، مما رسب لديه إحساسا مزمنا بالتقصير والخطأ، وربما القذارة والتلوث، يحاول طيلة حياته أن يتخلص من هذا الإحساس دون جدوى.
ويرجع التحليليون جذور السلوك الوسواسى إلى سوء تعامل الأم مع الطفل فى المرحلة الشرجية، مما يكسبه صفات العناد والاستحواذ، ويكسبه الشعور بعدم النظافة، وما ينتج عنه بعد ذلك من سلوكيات تعويضية من المبالغة فى النظافة والنظام والتطهر.
بينما يرى السلوكيون أن الوسواسى اكتسب هذه الصفات من علاقته بأحد والديه أو كليهما، حين كانا يعززان فيه هذا السلوك من خلال آلية الارتباط الشرطى ومبدأ الثواب والعقاب.
المهم أن العلاقة بين الوسواسى ورمز الوالدية علاقة ملتبسة ومتناقضة، وقد ينعكس هذا على علاقته بربه، حين يطيعه بشكل مبالغ فيه، وفى ذات الوقت قد يتشكك فى وجوده أو يتخيله فى صور لا تليق بجلاله، أو قد يدور فى عقله سباب للذات الإلهية ، ويدخل فى صراع مرير بين التعظيم والسب.
والمتدين الوسواسى لا يشعر أبدا بالرضا، فهو دائما مقصر، وعبادته ناقصة أو خاطئة، ولديه شعور مزمن بالذنب والتقصير والخطأ والخطيئة، وهذا الشعور لا يدفع إلى الارتقاء بتدينه بقدر ما يدفع إلى الغرق فى مزيد من التفاصيل، وإلى حالة من كراهية وجلد، وربما تدمير الذات، بينما هو يعتقد أنه يحسن العبادة ويتقنها ويرعى تفاصيل الدين.
ومن علامات التدين الوسواسى التفكيك والتجزىء، بمعنى أنه غير قادر على رؤية الدين فى كليته وتكامله وجوهره وروحانيته، لكنه يراه تعليمات وطقوسا مجزأة ومفككة، وعليه أن يتعامل مع كل جزئية على حدة، ويحاول أن يتقنها وحدها إلى درجة مئة بالمئة، ولو اضطره الأمر إلى إعادتها عشرات أو مئات المرات، وهو مع ذلك لن يصل إلى حالة الرضا أو الطمأنينة، بل إن لديه رغبة دفينة واحتياجا نفسيا ملحا بأن يظل فى حالة عدم اليقين وعدم الرضا، فهى الحالة التى تجعله يشعر بأنه على الطريق، الذى يريده كى يظل متطلعا إلى تحسين لا يصل إليه طوال حياته، وهو يعتبر أن هذا الشعور طبيعى كى تستمر مسيرة الإجادة والإتقان.
والمتدين الوسواسى عنيد ومستبد برأيه، وليس من السهل عليه التراجع أو التنازل أو المواءمة أو الرضا بما يقدر عليه، وليس من السهل عليه قبول النصيحة ممن يسألونه التخفيف عن نفسه وعلى غيره، إذ هو يرى أن الآخرين عشوائيون مفرطون فى دينهم متساهلون فى الأخذ بالأوامر والنواهى، ويرى أن الشكل لا يقل أهمية عن المضمون، وأن العبادة لا بد وأن تؤدى على أكمل وجه بدءا من شكل الطقوس. ومن هنا يبدو الوسواسى ديكتاتورا مستبدا برأيه على الرغم مما يبدو عليه من الهدوء ودماثة الخلق والطاعة.
وصاحب التدين الوسواسى ينشغل طوال الوقت أو أغلبه بشكل الملبس والهيئة وتفاصيل الوقفة والجلسة والحركة، وينشغل بالنزعات الداخلية ويؤثمها وكأنها تحولت إلى أفعال، ويتعامل مع الأفكار على أنها تحولت إلى سلوكيات، وخرجت إلى الواقع، ويتعامل مع الإحساسات أو التوهمات على أنها حقائق، ويتوجه إلى النصوص ويتأملها بدقة مرهقة، وربما يهتم كثيرا بالقضايا الخلافية، ويأتى بنوادر الأحكام والفتاوى، ويضعها فى بؤرة وعيه وشعوره، ولو كان هذا الشخص داعية أو عالم دين فإنه يشغل الرأى العام بآراء غريبة أو شاذة ينتزعها من الآثار الضعيفة أو الغريبة أو المتنازع عليها، وتراه يُعلمِّ مريديه هذا الأسلوب الوسواسى فى التدين، فيحول الفروع إلى أصول، والمتغيرات إلى ثوابت، والمندوبات إلى فرائض، والمستحبات إلى واجبات، وتتسع لديه مساحة الحلال والحرام، وتضيق لديه أو تتلاشى مساحة المباح.
والوسواسى منكفئ على ذاته، مشغول بصراعاته الداخلية، ولذلك لا يرى الواقع الحياتى الأوسع بوضوح، ومن هنا تجده فى آرائه وفتواه منغلقا على حياته الذاتية أو مجتمعه المحلى الضيق، ويريد أن يفرض رؤيته الضيقة المحدودة على العالم كله، على اعتبار أنه يملك الحقيقة المطلقة، ويسعى لتثبيت قواعد الدين، وحفظه من المتساهلين والمفرطين والمتفلتين.
والوسواسى لا يحب التفكير، ولا استخدام العقل، فهو لا يثق فى عقله ولا عقل الآخرين، لهذا يتشبث بالنقل، ويعتبره الوسيلة الوحيدة والصحيحة للسير على الطريق الصحيح، ويعتبر أى اجتهاد بعيد عن حرفية النص بدعة وانحرافا، ويرى فى الاجتهاد خدعة للتفلت من الأحكام الدينية القاطعة والحاسمة، ويرى فى إعمال العقل لفهم النص تحايلا لتطويع النص
للهوى البشرى.
ليس بالضرورة أن يكون أصحاب التدين الوسواسى منتمين إلى مرضى الوسواس القهرى بمعناه الطبى »وإن كان بعضهم كذلك «، لكن أغلبهم ليسوا مرضى بهذا المعنى، إنما لديهم سمات وسواسية تتمثل فى الحرص المبالغ فيه على الدقة والنظافة والنظام والاهتمام بدقائق التفاصيل والرغبة الملحة والعنيدة فى الوصول إلى الكمال والانشغال بالشكل على حساب المضمون.
ولما كان بعض مشاهير الدعاة ينتمى إلى هذا النوع من التدين الوسواسى، لذا انتشر فى المجتمع هذا النوع من التدين أو بالأحرى مظاهر التدين وأشكاله المبالغ فيها أحيانا، بينما كان الجوهر ضعيفا للغاية، وهذا ما أحدث التباسا كبيرا لدى الناس حين وجدوا تناقضا شديدا بين مظهر شخص يدل على تدين صارم وشديد وسلوكه الذى يعكس كل أنواع البعد عن الدين والأخلاق وحسن المعاملة.
والتدين الوسواسى هو نوع من الدفاعات النفسية على المستوى الشخصى والجماعى، فالشخص الوسواسى يشعر فى قرارة نفسه بالخطأ والخطيئة والتقصير والدونية الأخلاقية ، لذلك يتشبث بمظاهر الدين وتفاصيله ودقائقه بشكل مرهق وملح، لعله يطهر نفسه المذنبة، فالانشغال بالمظهر ودقائق التفاصيل يرحمه من مواجهة الداخل المشوه أو المرفوض أو المتمرد أو العاصى فى نظره .
وعلى المستوى المجتمعى نجد أن شيئا من هذا قد حدث، حيث سادت موجات من الفساد فى العقود الأخيرة، وتورط كثيرون من الناس بقصد أو دون قصد فى هذا الفساد، وتلوثوا بدرجات متفاوتة فكان المخرج القريب والسهل هو المبالغة فى مظاهر التدين، كنوع من التطهر أو التطهير السطحى الذى يعطى بعض التوازن للشخص وللمجتمع، فها هو يتشبث بمظاهر التدين التى تحميه من الوصم الأخلاقى الداخلى والخارجى.