وفقاً لبيانات البنك الدولى فإن ماليزيا الدولة ذات الدخل أعلى من المتوسط ، صنعت ما اعتبره البنك أداءً مذهلا، إنها شهادة تبدو مهمة خصوصا إذا كانت بحقّ دولة كانت شديدة الحذر فى ما يتعلقَّ بالاستدانة من المؤسسات الدولية وتبنى شروطها فى أوقات كثيرة، بل وما زال مسؤولوها السابقون يوجِّهون كخبراء نصيحتهم إلى الدول النامية بأن تكون على حذر مماثل فى التعامل مع مثل تلك المؤسسات الدولية المانحة.
لقد أشاد البنك الدولى بتجربة ماليزيا وما زال، بأنها سجَّلت متوسط نمو أعلى من ٧٪ خلال ٢٥ عاما، ونجحت فى خفض نسبة الأسر التى تعيش تحت خط الفقر بها من ٥٠ ٪ فى عام ١٩٦٠ إلى أقل من ٢٪ الآن .
لقد تطور اقتصادها بشكل مذهل من الاعتماد على الزراعة وتصدير المواد الخام إلى الصناعة، وقد أخذ اقتصادها فى التوسع فى مجالات التجارة وصناعة التكنولوجيا حتى أصبح واحدا من أبرز الاقتصاديات فى شرق آسيا، بعد أن نجح فى تنويع مصادره واستغلال كل الإمكانات المتاحة أمامه لتحقيق معدّل نمو عالٍ، وتقليل معدل الفقر فى البلاد.
إنها نظرة على تجربة أخرى من الشرق ربما تستحق قليلا من النظر والتأمل والدراسة.
الاستقلال أولا.. وقبل أى شىء
ماليزيا هى دولة تقع فى جنوب شرق آسيا مكوَّنة من ١٣ ولاية و ٣ أقاليم اتحادية، بمساحة كلية تبلغ ٣٢٩ ، ٨٤٥ كم ٢، والعاصمة هى كوالالمبور، فى حين أن بوتراجايا هى مقر الحكومة الاتحادية.
يصل تعداد السكان بها إلى ٢٩٫٧ مليون نسمة، وجغرافيا تنقسم إلى قسمين يفصل بينهما بحر الصين الجنوبى، هما شبه الجزيرة الماليزية وبورنيو الماليزية المعروفة أيضا باسم ماليزيا الشرقية يحد ماليزيا كل من تايلاند وإندونيسيا وسنغافورة وسلطنة بروناى. عمليا لم تكن لماليزيا دولة موحّدة حتى عام ١٩٦٣ ، قبل ذلك كانت بريطانيا تفرض نفوذها على مستعمرات الهند وجنوب شرق آسيا حتى أواخر القرن الثامن عشر.
وقد تكوّن النصف الغربى من ماليزيا الحديثة من عدة ممالك مستقلة.
عرفت هذه المجموعة من المستعمرات باسم مالايا البريطانية ، حتى جرى حلها عام ١٩٤٦ وإعادة تنظيمها ضمن اتحاد الملايو .
لقد حصلت ماليزيا على الاستقلال فى وقت لاحق فى ٣١ أغسطس ١٩٥٧ ، وقد دمجت كل من سنغافورة، ساراواك، وبورنيو الشمالية البريطانية واتحاد مالايا جميعها لتشكّل ماليزيا يوم ١٦ سبتمبر ١٩٦٣.
وقد شابت تلك الصيغة فى السنوات التالية كثيرا من التوترات داخل الاتحاد الجديد، أدت إلى نزاع مسلح مع إندونيسيا، ومن ثمّ خروجها، وكذلك طرد سنغافورة فى ٩ أغسطس ١٩٦٥.
أزمة ما بعد الاحتلال
يرى مؤرخون ماليزيون أن بريطانيا شأنها شأن أى دولة احتلال قد تركت وضعا بائسا فى بلادهم بعد رحيلها، أبرز سماته كانت حالة الاحتقان العرقى التى كانت سائدة وقتها فى ماليزيا، ففى عهد الاحتلال الإنجليزى تحوَّلت ماليزيا من مجتمع شبه متجانس إلى مجتمع متعدد الأعراق، وذلك بسبب العمال الوافدين الذين جلبتهم شركة الهند الشرقية من الصين والهند وإندونيسيا هى شركة أسسها التاج البريطانى ومنحها سلطات احتكارية على تجارة الهند وجميع مستعمراتها فى جنوب شرق آسيا، وقد تحولت الشركة من مشروع تجارى إلى مؤسسة تحكم جميع الولايات والمستعمرات البريطانية فى المنطقة.
وخلال تلك الفترة كان داخل ماليزيا ما يشبه حالة الفصل العنصرى، فصلا فى المجتمعات والقطاعات الاقتصادية التى تعمل فيها تلك الأعراق المختلفة، فالمالاى مثلا كانوا يعملون بالزراعة فى المناطق الريفية، أما الهنود فكانوا يعملون فى مجال العقارات، بينما كان الصينيون يعملون فى قطاع الأعمال، وبعد الاستقلال كان المالاى المسلمون يمثلِّون ما نسبته ٦٥ ٪، بينما مثل الصينيون ٢٦ ٪، ومثل الهنود ٨٪، ومثلّت الأقليات الأخرى ٢٪.
لم تكن تلك المشكلة العرقية هى المشكلة الوحيدة فى ماليزيا ما بعد الاحتلال البريطانى فحسب، فمع بداية الاستقلال كانت البلاد تتصف بمعدل مرتفع جدا من الفقر والبطالة، ومع تزايد عدد السكان لم يكن فى استطاعة القطاعات المطاط ومناجم القصدير سوى توفير عدد ضئيل من فرص العمل، وبغير خلق فرص عمل للماليزيين كان من الممكن أن يتحوَّل الاستقلال إلى استقلال لا معنى له، وتغزو المشكلات الاجتماعية الدولة وتحولها النزاعات العرقية إلى برميل من البارود قابل للانفجار فى أى لحظة.
ليسوا اشتراكيين ولا رأسماليين
وإن كان البعض يرى أن اتجاه ماليزيا لم يكن بمنزلة خروج عن المألوف بقدر ما كان اتجاها نحو الافتتاح الاقتصادى والسوق الحرة، يؤكِّد مهاتير محمد، فى إحدى المحاضرات التى ألقاها فى كلية الاقتصاد بجامعة أواتاوا فى ماليزيا، عدم اتبّاع ماليزيا نهجا أيديولوجيا بعينه : نحن لسنا اشتراكيين ولا رأسماليين فى ماليزيا، الحقيقة أننا عمليون، نختار أى نظام نجده أنسب لمجتمعنا، هناك تجارة حرة، لكن هناك قواعد وضوابط وقوانين للتأكد من أن التجارة الحرة لا تؤدى إلى استغلال العمال أو أسواق الرأسماليين .
ويضيف فى نفس المحاضرة: لا تتبع إدارة الاقتصاد الماليزية أى أيديولوجية أو حتى نظرية اقتصادية تقليدية، إنها أكثر حرية من الاقتصاد الرأسمالى، وهى ليست بدرجة تصلب الاقتصاد الاشتراكى أو الشيوعى فى ما نتمتعَّ به من مقاربة.
إذا كانت هناك مقاربة تناسب احتياجاتها فى وقت ما نتبناَّها، وإذا لم تعد تلك المقاربة مناسبة أو لم تعد تؤدى الغرض نتركها لمصلحة مقاربة جديدة أو معاكسة تماما أو خليط من المقاربات الأيديولوجية من الأيديولوجيات المختلفة .
الاهتمام بالبنية التحتية .. من أجل التصنيع
لقد لعب الاهتمام بالبنية التحتية دورا كبيرا فى التنمية الاقتصادية فى ماليزيا، فلم يكن لأحد أن يستثمر إذا لم تكن هناك طرق جيدة وسكك حديدية وموانٍ جوية وبحرية لخدمة الاقتصاد. وهو ما أدركه الماليزيون وأولوه اهتماما بالغا، ومع مرور الوقت تمكَّن الماليزيون من امتلاك بنية تحتية جاذبة للاستثمار، وتدريجيا أصبح لديهم القدرة على استثمار وتصنيع كل شىء تقريباً مما يصنعه المستثمرون الأجانب، بما فى ذلك المنتجات الإلكترونية.
يعطى مهاتير محمد مثالا عن هذا فى صناعة البترول مثلا، حالة بتروناس الشركة الوطنية للبترول، صاحبة البرجين الأشهرين فى جنوب شرق آسيا، ويقول : لم تقم الشركة بجمع الإتاوة والأرباح من المشاركة فى الإنتاج، لكنها قامت أيضا بتعلم كل ما يمكن تعلمّه من صناعة البترول، من التنقيب إلى الإنتاج إلى تسويق المنتجات حول العالم، والشىء نفسه أيضا فى الصناعات البتروكيماوية.
اليوم تعمل شركة بتروناس فى أكثر من ٣٠ دولة فى كل فروع أعمال البترول، وأصبح اسمها فى قائمة فورتشن ٥٠٠ قائمة أكبر الشركات بالعالم .
وفى سعى لتسريع نمو الاقتصاد، قامت الحكومة بخصخصة كثير من المرافق والهيئات والشركات الحكومية، وهنا فرضت الإدارة الماليزية شرطين للخصخصة كى تتم وفقا لما تراه فلسفة رشيدة لا تهدر حقوق العمال، يتمثلَّان فى الآتى:
١- لا يمكن الاستغناء عن العاملين إلا بموافقتهم، ويجبحينئذٍ دفع مكافأة مجزية لهم.
٢- يجب أن لا يكون مستوى المرتبات والمزايا للشركات الخاصة أقل مما كان عليه إبان ملكية الحكومة لها إذا أمكن أن يكون أفضل منه.
ويقول مهاتير فى تقييمه لبرنامج الخصخصة الماليزى: لقد أسهمت الخصخصة فى الإسراع فى تنمية الدولة، لأن القطاع الخاص أصبح يبنى كثيرا من حاجات البنية التحتية بالطرق السريعة وخدمات الاتصال التليفونية الحديثة، ومحطات الطاقة.. أصبح ما تنفقه الحكومة على مشروعات البنية التحتية دون عائد مباشر يذهب إلى التنمية .
تحقيقات اكتساب المعرفة الإدارية والتقنية ونقلها
لقد اختبرت الأزمة المالية فى آسيا قدرات الماليزيين، لقد اكتسبوا معرفة مكنتهم ليس فقط من التغلب على التراجع المالى، ولكن أيضا من إدارة تنمية الدولة دون الاعتماد الزائف على السلف الخارجية. وهنا يقول مهاتير محمد: لقد استلفنا فقط بقدر ما نستطيع أن نرد بالتوازى مع نمو ماليزيا اقتصاديا، اتفق كثير على بناء الطرق وقنوات الرى والمطارات والموانى ومحطات المياه والطاقة. يسهم بناء كل ذلك فى العمالة والأعمال إلى النمو الاقتصادى، بعد تشغيلها تساعد هذه الأعمال على خفض تكلفة المعيشة وتشجيع الأعمال وتحسين مستوى المعيشة .
وبمرور الوقت وتراكم رأس المال وأيضا الخبرات المحلية أصبح كثير من مكونات المنتجين التى تصنعها الشركات الأجنبية تنتج محليا بأيدى صناعات مملوكة للماليزيين، تستطيع الشركات الماليزية اليوم تصنيع غالبية المنتجات التى بدأت تصنيعها شركات مملوكة للأجانب، يستثمر الماليزيون اليوم فى الدول الأجنبية فى تصنيع منتجات ابتداءً من الأجهزة المنزلية إلى الشرائح الإلكترونية.
لقد أصبحت القدرة والمعرفة للماليزيين مساوية تقريبا للمستثمرين والصانعين الأجانب.
لقد أصبحت ماليزيا اليوم دولة صناعية، يقلّ اعتمادها على الاستثمار الأجنبى المباشر أكثر فأكثر، بينما أصبح شعبها يمتلك رأس المال للاستثمار ولإدارة التصنيع، لذلك فبعد أن كانت صادرات ماليزيا عام ١٩٨١ من المواد الخام ٥ مليارات دولار، بلغت قيمة صادرات الإلكترونيات فقط ١٠٠ مليار دولار فى عام ٢٠٠٣ .. إنها نسبة كاشفة وبحق عما جرى فى تلك الدولة.
شعار التمسك بالحلم .. ماليزيا أيضا تستطيع
وفى كلمة ألقاها مهاتير محمد، أمام منتدى جدة الاقتصادى فى عام ٢٠٠٤ ، قال: للحاق بالدول المتقدمة يجب أن يتمتع الماليزيون بالثقة فى النفس .. إنهم يتلقون تشجيعا للقيام بأى شىء قام به الآخرون أو يستطيعون القيام به، وأن يقوموا به بشكل أفضل. قام بحَّار ماليزى بالإبحار منفردا حول العالم محققا رقما قياسيا عالميا، تسلقَّ الماليزيون قمة جبل إفرست، وهبطوا بالمظلات على القطب الشمالى، وقاموا بالسباحة فى النقال الإنجليزى المانش ، إلخ.. بالنظر إلى أن ماليزيا تقع فى المنطقة الاستوائية فإن هذه الأعمال تمثل تحديا أكبر، وتساعد على إقناع الماليزى بأنه لا يقل عن أى إنسان آخر، فتم إطلاق شعار ماليزيا بوليه أو ماليزيا تستطيع ، أى أن ماليزيا والماليزيين يستطيعون فعل أى شىء يفعله الآخرون.
لقد ساعد ذلك الماليزيين على مواجهة أى تحديات سواء على مستوى الفرد أو الأمة. يحفظ دفتر ماليزى كل الإنجازات التى قام بها الماليزيون .
المشروع الوطنى للتعليم
لقد بدأ المشروع الوطنى للتعليم بالاستماع إلى المعلمين وأولياء الأمور والطلاب والاستعانة بخبرات أجنبية وعقد اجتماعات ومنتديات للحصول على آراء الجميع فى نوعية التعليم الذى يريدونه، ٢٠ ٪ من الموازنة الماليزية مخصصة للتعليم، وتم توجيه استثمارات ضخمة فى التعليم وفى تطوير المدارس وكفاءة المعلمين، بحيث تحوَّل التعليم فى حدّ ذاته فى ما بعدُ إلى قطاع للاستثمار حتى أصبح لدى الماليزيين واحد من أهم محاور الاستثمار فى التعليم فى جنوب شرق آسيا. ما يزيد على عشرين جامعة حكومية، ونسبة تقترب من المئة فى المئة فى ما يتعلق بالطلبة المنخرطين فى التعليم الأولى، بالإضافة إلى عدد من فروع أشهر الجامعات فى العالم، وهؤلاء يأتون للاستثمار فى قطاع التعليم فى ماليزيا ثقة فى اقتصادها.
ومع تطور مستوى التعليم انتشرت فكرة المعامل لإيجاد الحلول للمشكلات التى تواجه ماليزيا فى مجالات عدة، حيث تتولى مجموعة من المتخصصين داخل غرف مغلقة العمل فترات طويلة فقط على إيجاد حلول ما لأزمة ما لديهم، وهناك معامل فى السياحة، وتجارة الجملة، والبترول والتعليم والطاقة ، إلخ.. أما نتاج تلك المعامل فيكون عرضة للنقاش والدراسة فى منتديات أوسع بعد الانتهاء من إخراج الحلول.
هل نجحت ماليزيا فى أن تخلق تعايشا للثقافات ؟
بعد استقلالها عن إنجلترا كان الوضع فى ماليزيا معبرا عن حرمان لأغلبية السكان الماليين، فأغلبهم كما قلنا كانوا يعملون بالزراعة فى حين تعمل الأقليات الأخرى من الصين والهنود فى مجال لأعمال العقارات، ورغم أن المالاى كانوا يمثلون الأغلبية فإنهم كانوا الأكثر معاناة وفقرا، لقد بدأ الأمر بأنه لا يمكن أن يستمر بهذا الشكل كثيرا، خصوصا بعد أعمال الشغب العرقية التى انفجرت فى ١٣ مايو عام ١٩٦٩ ، والتى عبرت عن غضب إزاء استمرار الأوضاع كما هى، ولقد سعت الحكومة بعد ذلك لتبنى سياسة تمييز إيجابى لصالح الأغلبية غير الممكنة، وأطلق رئيس الوزراء الأسبق عبد الرازق حسين، الملقَّب ب أبو التنمية ، سياسات اقتصادية جديدة أثارت جدلا واستهدفت زيادة حصة السكان الأصليين أغلبية شعب المالايو بالمقارنة مع غيرها من الجماعات العرقية، وقد حافظت ماليزيا منذ ذلك الحين على توازن عرقى وسياسى دقيق، مع نظام حكم يحاول الجمع بين التنمية الاقتصادية الشاملة والسياسات الاقتصادية والسياسية التى تعزز المشاركة العادلة لجميع الأعراق المشكلة للبلاد، وهنا يرى مهاتير محمد أن ما مكّن الثقافات المختلفة فى ماليزيا أن تستمر وتتعايش هو روح التسامح والعملية التى يظهر بها الجميع، يعلم الماليزيون أن أى محاولة لفرض ثقافة واحدة سوف تؤدى إلى ضيق وعدم تعاون، وربما مواجهة عرقية. ستصبح الدولة فى هذه الحالة غير مستقرة وغير قادرة على النمو.. إننا نعتقد فى ماليزيا أنه من الأفضل أن تكون لك قطعة من كعكة تكبر عن أن تكون لك كعكة كاملة تنكمش، لقد أدى التسامح إلى أن تصبح ماليزيا آمنة ومستقرة. هكذا أصبح النمو الاقتصادى سريعا وكبر نصيب كل شخص بكثير من ثروة البلاد الاقتصادية الأصلية .
لا تتبع ماليزيا وصفة للتكامل الثقافى أى قاعدة جامدة وسريعة، وكلها نتيجة لطريقة تجاوب تجاه مواقف معينة، لو كان الماليزيون جامدين وغير راغبين فى تعديلات لما أصبح تكامل الثقافات ممكنا.
بينما لا يمكن أن تطبق وصفة ماليزيا على كل الدول ذات السكان متعددى الأعراق، فلا شك أن روحا من السماحة يمكن أن تساعد على التكامل الثقافى، فلا تعلو ثقافة على الأخرى يجب اعتناقها بأى ثمن.
فى النهاية ينبغى التأكيد أن تجربة ماليزيا فى تحقيق تطور اقتصادى ليست تجربة خالية من السلبيات أو العيوب، خصوصا إذا تحدَّثنا عن مناخ الحريات ومظاهر الطائفية التى ما زالت قائمة ومتمثلة فى الأحزاب العرقية، وعدد من الإجراءات غير الديمقراطية التى تبدو أن حكومات قد انتهجتها فى وجه من رأتهم خصومها، بالإضافة إلى ما تسجله تقارير دولية عن عدد من العقوبات التى قد تجدها ما زالت قائمة هناك مثل الجلد والضرب وغيره، بالإضافة إلى سلبيات تجربة تمكين المالاوى التى قادت ربما الآن إلى احتياج فئات أخرى فى المجتمع من الأقليات أصبحت فى حاجة إلى أن تمكن هى بعد أن جرى تمكين المالاوى على حسابها.
إدارة الثروة.. بداية غير تقليدية
نظر الماليزيون حولهم وقد وجدوا أن التصنيع وحده يستطيع أن يخلق عملا كافيا للشعب، وعن عدم امتلاك معرفة التصنيع ولا رأس المال ولا معرفة بالأسواق يقول مهاتير محمد، الملقَّب بأبو التحديث فى ماليزيا : كان يجب أن نستعين بالاستثمار الأجنبى، كان الاتجاه السائد فى ذلك الوقت للدول حديثة الاستقلال هو تأميم الشركات الأجنبية، لم نكن متأكدين من قدرتنا إذا تولينا إدارة هذه الشركات على أن نقوم بالمهمة على الوجه المرجو، كان قرارنا بدعوة المستثمرين من بين أوائل أفعالنا غير التقليدية والخارجة على المتعارف عليه فى ذلك الوقت، لقد قررنا أن نعمل بطريقتنا الخاصة .
وهكذا يتبينَّ لنا أنه فى تلك الفترة وبينما كانت الدول حديثة الاستقلال تتجه إلى نهج اشتراكى وتسعى لتأميم الشركات داخلها كان الماليزيون لهم رأى آخر، وهو رفض اتباع السائد والمألوف، لكن على الجانب الآخر كانت الخطورة فى أن تقع البلاد أسيرة للاستقلال الصورى، وهو ما يقوله مهاتير : لقد عرضنا أنفسنا عندما دعونا المستثمرين، خصوصا الأوروبيين إلى خطر سيادتهم علينا، إننا نعرف جيدا ما حدث فى جمهوريات الموز فى أمريكا الوسطى، ولكننا وضعنا شروطا معينة لعدم حدوث هذا ، وعمليا فلم يلجأ الماليزيون إلى التأميم كما قلنا، بل سعوا لإدارة الثروة التى كانت موجودة فى يد الإنجليز، واكتساب المعارف منهم فى ما يتعلق بالإدارة، ومن ثمَّ القيام بالإحلال التدريجى للماليزيين محل الأجانب فى عملية الإدارة حتى تمت السيطرة على المرافق التى كانت محل تهديد للاستقلال الماليزى بسيطرة الإنجليز عليها.
إعفاءات ضريبية وقوانين محفِّزة للاستثمار
كما قامت الحكومات المتتالية بتوجيه حوافز استثمارية متنوعة، سواء إعفاءات ضريبية على قطاعات بعينها أو تخفيضات ضريبية، أو خدمات البنية الأساسية المدعومة، أو تسريع الإجراءات الجمركية، وضبط قوانين الملكية بحيث تكون أكثر مرونة بالتناسب مع ما تُصَدّره الشركات والمصانع للخارج، وإذا ما اطلعنا مثلا على القوانين الضريبية وقوانين حوافز الاستثمار الماليزية وتعديلاتها منذ الستينيات حتى اليوم يمكنك إدراك كيف أنها كانت مرنة ومتناسبة مع حرص الدولة على تشجيع الاستثمارات فى قطاعات بعينها، ففى البداية كانت الرغبة فى خلق فرص عمل كثيفة وإحلال الواردات بمنتجات محلية، ومن ثم كان التشجيع الأكبر موجها نحو ذلك، ثم مع مرور الوقت كان الهدف التصدير إلى الخارج، فكانت الحوافز وعمليات التشجيع الاستثمارى تتم فى هذا الاتجاه، ثم جاءت مرحلة دعم الصناعات التقنية، وهكذا.
وفى هذا الصدد، يقول مهاتير محمد : تعمل ماليزيا كشركة واحدة كبيرة، حيث الحكومة والقطاع الخاص والنقابات المهنية شركاء فى تنمية الدولة ، سوف تفعل الحكومة كل ما يمكن أن تفعله لضمان سهولة ونجاح الأعمال.. يتضمَّن ذلك تعديل القوانين وإصدار قوانين جديدة، كما يقترحها القطاع الخاص، يتم تبسيط الإجراءات الحكومية كى لا تسببّ الاضطراب والتأخير.. تريد الحكومة للشركات والأعمال أن تنجح وتحقق أرباحا، لأن ٢٨ ٪ من هذه الأرباح تؤول إلى الدولة فى صورة ضريبة شركات، بالإضافة إلى ذلك تستطيع الحكومة بروح الاتحاد من أجل ماليزيا أن توجه الشركات فى الاتجاه الأكثر إفادة لتنمية الدولة .
ويضيف مهاتير : هكذا فقد علمت الشركات أن الدولة لا يمكن لها أن تحصل على مزيد من الصناعات كثيفة العمالة معتمدة على العمالة الأجنبية. بدلا من ذلك الحكومة تريد من العمال أن يكونوا متدربين للعمل فى الجديد من صناعات التكنولوجيا المتطورة، حيث يمكن أن يحصل العاملون على أجور أكبر. فى بعض الصناعات فى ماليزيا مؤهلون بنصف قوة العمالة، بينما يمثلّ الفنيون المدربون غالبية النصف الثانى .
خطة الثلاثين عامًا
لكن البعد عن التشبث بنهج أيديولوجى بعينه لا يعنى أن عملية التنمية الاقتصادية كانت تتم عشوائيا، بل العكس وفق خطط استراتيجية طويلة وقصيرة ومتوسطة المدى، وهنا يقول مهاتير محمد : التخطيط متطور جدا فى ماليزيا، لدينا الخطة السنوية من خلال الميزانية السنوية، لكن يزيد على ذلك الخطط الخمسية وخطط للمدى البعيد حتى ثلاثين عاما، رؤية ٢٠٢٠ هى خطة لثلاثين سنة، لا تحدد فقط الهدف، لكن أيضا الاستراتيجيات والخطوات التى يجب اتخاذها لتحقيق رؤية ٢٠٢٠ هى بالطبع سوف تحوّل ماليزيا إلى دولة متقدمة بطريقتها قبل ٢٠٢٠ . لقد تم إعداد عقول البيروقراطيين وعقول الشعب لذلك، وكانت عملية الرقابة والمتابعة تتم بشكل دائم متمثلة فى خروج الوزراء والموظفين الحكوميين إلى مكان التنفيذ، بما يضمن ارتباطهم بشكل مباشر بمراقبة وتنفيذ الخطة، وبقرارات مجلس الوزراء الأسبوعية، بينما تتابع الخطة وحدة تنسيق التطبيق آى سى يو ، وتسلم تقارير دورية إلى مجلس الوزراء حول سير الأعمال، ويزيل الوزراء وكبار الموظفين الحكوميين عقبات التنفيذ وأحيانا ما يقوم مجلس الوزراء.
لقد سعت الحكومات رغم حرصها على حرية السوق إلى التدخل بإجراءات لتتأكد من أن الاستثمار الأجنبى المباشر يؤدى إلى نقل للتكنولوجيا ومعرفة الإدارة.
السيطرة على التضخم ومواجهة الغلاء
فى أواخر السبعينيات كانت نسبة الفقراء فى ماليزيا ٥٧ ٪، لكن اليوم النسبة أصبحت ١٫٧ ٪، بينما أصبحت نسبة البطالة ٣٪، ومع ما أدت إليه زيادة الطلب على العمال فى مجالات التصنيع من زيادة الأجور، تفوق اليوم أجور الماليزيين أجور العاملين فى الدول المجاورة، ولكن بالطبع إذا زادت المرتبات فوق حد معين فستترك الصناعات ماليزيا لتتجه إلى الدول ذات العمالة منخفضة الأجور، وسيسببّ ذلك البطالة والحد من التنمية.
وهنا يقول مهاتير محمد : يخلق ذلك معضلة للحكومة، إننا نريد أن يعيش شعبنا فى مستوى معيشة مرتفع ومتزايد من خلال دخل أكبر، وقد تؤدى الأجور الأعلى إلى فقر وبطالة. استراتيجية ماليزيا هى أن تحافظ على تكلفة المعيشة بشكل منخفض، الأمر الذى يقود إلى قوة شرائية أكبر حتى مع مستوى أجور أقل بكثير مما فى الدول المتقدمة .
رغم أن التحكم فى الأسعار هو طريقة تستخدم أيام الحرب للتحكم فى التضخم، نتيجة لنقص الفرص، فإن ماليزيا قد استمرت فى التحكم فى أسعار السلع الضرورية حتى خلال أيام السلم، القبضة محكمة حول سوء الاستغلال التجارى .
وهنا يقول مهاتير محمد فى إحدى محاظراته عندما تزيد الأسعار يطلب العاملون أجورا أكبر لمواجهة ذلك، وللاحتفاظ بالأرباح، فلا بد من زيادة أسعار المنتجات والخدمات.
إن زيادة الأجور بطريقة مستمرة سوف تدفع التضخم إلى مستويات مرتفعة جدا، وسوف تنخفض قيمة العملة المحلية، وبسرعة جدا يمكن أن تتحول دولة ذات تكلفة منخفضة إلى دولة ذات تكلفة مرتفعة ليست لها ميزة تنافسية، وبهذا فلن تضخ استثمارات تساعد على تنمية الدولة، لذلك فإن التحكم فى التضخم مهمة رئيسية للحكومة رغم أن السوق حرة، فيجب أن يكون للحكومة بعض التحكم كى تمنع التضخم.. بالتحكم فى أسعار السلع الأساسية، ومراقبة أسعار السلع فى السوق، تستطيع ماليزيا خفض التضخم، هكذا تستمر قدرة هذه الدولة التنافسية.
ويتحسن مستوى المعيشة لأن مهارات وإنتاجا أعلى يؤديان إلى أجور ودخول أفضل.