شتان الفارق بين الحسم وبين الإجبار، وواسعة هي الفجوة بين الإقناع بضرورات المصلحة العامة وبين فرض الرأي بأدوات السلطة المختلفة، ولعل القرارين الذين أصدرتهما الحكومة مؤخرا ويتعلقان بقطاعات جماهيرية واسعة من عموم المصريين على اختلاف التركيبة الطبقية والتوزيع الجغرافي لهذه القطاعات، يكشف بوضوح افتقاد الحكومة لعقل سياسي يسهل اتخاذ مثل تلك القرارات الصعبة، ويجعل من الرأي العام وتلك القطاعات الجماهيرية الواسعة أكثر تقبلا للقرارات مهما كانت قسوتها.
القرار الأول يتعلق بتقليص مساحات الأرز، وهو من أكثر المحاصيل الزراعية شراهة لاستهلاك المياه، وصحيح أن محدودية حصة مصر من المياه مقارنة بالتزايد السريع في السكان والاحتياجات المائية، قد يكون الدافع الأول وراء تقليص مساحات الأراضي المزروعة أرزا بنسبة ٤٥٪ تقريبا، إلا أن الأداء السياسي المصاحب للقرار لم يأت منسجما مع الضرورات التي دعت إليه، فجاء تبني خطاب التهديد والوعيد، ووصل الأمر إلى حد إقرار عقوبة الحبس للمخالفين، وهي ربما المرة الأولى التي تمثل زراعة محصول زراعي (غير مخدر) جريمة تستوجب الحبس، فضلا عن تشدد رسمي في تطبيق الغرامات، وإفساد الحقول التي يتم زراعة الأرز بها، وصلت إلى استخدام مواد سامة لإتلاف تلك الزراعات، بحسب العديد من المزارعين وممثليهم في عدد من المحافظات.
الأزمة الثانية، كانت قرار وزير النقل زيادة سعر تذكرة مترو الأنفاق بصورة مفاجئة، وبمعدلات وصلت في بعض المراحل إلى ما يزيد عن ثلاثة أضعاف السعر القديم، ولا يمكن لأحد أن يجادل في أن سعر تذكرة مترو الأنفاق هو سعر اجتماعي وليس سعرا اقتصاديا، لكن في المقابل فإن الأمر في مثل تلك المرافق الجماهيرية لا يخضع فقط لقواعد الحساب الاقتصادي، وإنما يتطلب حنكة في إدارة ملفات الإصلاح.
الأزمتان السابقتان تقدمان عنوانا جليا لافتقاد الحكومة لعقل سياسي يمكنها من اتخاذ قرارات صعبة، بتفهم جماهيري أكبر، فلو أن خفض مساحات زراعات الأرز، وزيادة سعر تذكرة المترو جاء متدرجا، وبعد حوار مجتمعي واسع، يتم من خلاله شرح أبعاد ومبررات القرارات، والسيناريوهات البديلة لكل القرارات المتاحة، والإجراءات الأخرى التي تم اتخاذها للتخفيف من تداعيات تلك القرارات القاسية، لكان الأمر أخف وطأة على المواطن، وبخاصة من أبناء الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، الذين تحملوا – باعتراف الدولة والمؤسسات الدولية – العبء الأكبر من تداعيات خطة الإصلاح.
وقد يكون أسلوب الصدمة، نمطا متبعا في بعض السياسات، ويحقق أهدافه أحيانا، لكنه لا يبدو فعالا في القضايا الجماهيرية التي تخص قطاعات واسعة من المواطنين، فلربما يكون التفهم والتوعية والنقاش الهادئ المستنير أكثر جدوى.
ولعل القرارات الاقتصادية المرتقبة برفع أسعار المحروقات والكهرباء المنزلية، تمثل تحديا إضافيا أمام الحكومة واختبارا لمدى احتمال الشارع لوطأة تلك القرارات، لذلك فإن الخطاب الإعلامي الصاخب في مثل هذه الأمور، وحملات الهجوم الحاد التي تطال أي صوت مخالف قد لا تكون مجدية، فأثرها مؤقت وتأثيرها محدود، بينما يتراكم الامتعاض في صمت ويتحول، في غيبة الوعي والتوعية والإقناع، إلى غضب، وربما أكثر.