ربما لا توجد علاقة سياسية بين مصر وأي دولة في العالم مرت بهذا القدر من المنعطفات و”المطبات”، مثلما شهدت العلاقات المصرية الأمريكية، التي تبدو دوما متشابكة الخيوط، متداخلة الاتجاهات.
فعلى مدى العقود الستة الماضية، مرت تلك العلاقات بفترات مد وجذر عديدة. صحيح أنها لم تصل حد القطيعة، حتى في ذروة فترات التوتر إبان حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لكن حتى العلاقات الدافئة التي جمعت بين قادة البيت الأبيض ورؤساء مصر، وخاصة في عهدي الرئيس الأسبق حسني مبارك، والرئيس عبد الفتاح السيسي، لم تخل من تقلبات حادة.
ولعل التغير النوعي في سياسات البيت الأبيض تجاه مصر، مع مجيء الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، وتلك العلاقة القوية التي ربطته بالرئيس السيسي، حتى قبل تولي الأول مهام قيادة الولايات المتحدة، كانت مؤشرا على إمكانية تعويض فصل الخريف الطويل الذي خيم على العلاقات الثنائية بين البلدين في سنوات حكم أوباما، والتي وصلت ذروة اضطرابها بعد عزل محمد مرسي عام 2013.
واللافت أن علاقات البلدين شهدت موجة جديدة من الصقيع، كانت سياسات ترامب “الهوجاء” هي السبب فيها، خاصة بعد اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، وما أعقب ذلك من ضغوط كبيرة على عواصم عربية مرتبطة بالملف الفلسطيني، للقبول بما يعرف بـ”صفقة القرن”. وبالطبع كانت القاهرة في مرمى تلك الضغوط.
ورغم انتهاج القاهرة دبلوماسية هادئة في إدارة خلافاتها مع إدارة ترامب، إلا أن الأخير لم يتردد في اتخاذ قرارات بدت محرجة للحليف المصري، ومنها موقفه الغائم من الأزمة القطرية، وكذلك تخفيض المعونة الأمريكية لمصر، فضلا عن الانحياز “الفاضح” لإسرائيل.
الأسابيع الأخيرة حملت مؤشرات عدة ربما يعتبرها مراقبون “بشائر” مهمة على انتهاء فترة الصقيع في علاقات القاهرة وواشنطن، وبداية استعادة الدفء المفقود، ومن تلك “البشائر” قرار رفع الحظر عن 195 مليون دولار من المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر، وهو القرار الذي جاء عقب إشادة غير مسبوقة من تقرير الحريات الأمريكي بالإجراءات المصرية لحماية الأقليات الدينية، والتصدي للخطاب الديني المتطرف، وهي في الحقيقة إشادة نادرة، من تقرير طالما استخدم كرأس حربة في الهجوم على مصر، وغالبا ما كانت بياناته مسيسة، وتتلون بلون العلاقات السياسية بين البلدين.
بشائر التحسن لم تقتصر فقط على الإجراءات السياسية، بل امتدت كذلك إلى المستوى الاقتصادي والاستراتيجي أيضا، فحملت الأيام الأخيرة أنباء عن زيارة وفد أمريكي يضم ممثلي 60 شركة إلى مصر لبحث سبل الاستثمار، فضلا عن استئناف جلسات الحوار الاستراتيجي بين البلدين بعد توقف منذ عام 2015، وانتظام مناورات “النجم الساطع” التي يمكن اعتبارها “ترمومترا” لمستوى دفء العلاقات المصرية الأمريكية.
كل هذه المؤشرات والبشائر بالتأكيد تمثل تطورا مهما تحتاجه القاهرة في زخم الإقليم المضطرب، وتسعى واشنطن أيضا إليه لتثبيت وجودها في لعبة “الكراسي الموسيقية” التي تمارسها القوى الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط، لكن التحدي الحقيقي الذي تواجهه مصر والولايات المتحدة هو كيفية “مأسسة” العلاقة بينهما، بحيث تعتمد على ركائز راسخة قوامها المصالح المشتركة، وهو ما يعزز تلك العلاقة ويحميها من عواصف السياسة وتحولاتها، وتبدلات أمزجة الساسة وتغيراتها.