التأمل في عملية الكتابة ومراحلها المختلفة قبل وأثناء وما بعد مخاض النص وتفاعل الكاتب معه وعلاقته به في كل تلك المراحل لَمِن الأمور الفاتنة والمحيّرة في ذات الوقت. ومن الطبيعي أن تصير عملية الكتابة معقدّة في زمن بات معقدّا بالانفجار المعلوماتي وسيول الأخبار والتحديثات على التايم لاين على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، والتي صارت كغيرها سلعة استهلاكية في عصر الرأسمالية المُعولَمة. هذا عدا التغيرات السياسية واشتعال الحروب الميدانية التي بات من المستحيل تتبّعها والقبض على تداعياتها السياسية وانعكاساتها الاجتماعية والأدبية، والتي غالبا ما يشعر الكاتب بضرورة اتخاذ موقف ما منها أو على الأقل التعليق عليها تحاشيا للوقوف في محاكم التاريخ. وفي أحيان كثيرة يضطر الكاتب- الذي لا يمتهن سوى الكتابة- إلى اللجوء لكتابة ما لا يهمه ولا يرضيه لدفع فواتيره نهاية الشهر.
كل هذا يُحجِّم من قدرة الكاتب على فرض رغباته الكتابية وملاحقة أسئلته الوجودية الكبرى بعيدا عن تأثير محيطه بِشقّيه الواقعي والافتراضي. وإذا نجح الكاتب في تجاهل كل الأصوات حوله والاستجابة لرغباته الكتابية، فسيكون من الصعب عليه النجاة بنفسه من إصرار القارىء على ممارسة حقّه في التفاعل المباشر مع الكاتب ومطالبته بالإكثار من الكتابة على الشاكلة ‘الفلانية’ والابتعاد عن الكتابة بالطريقة ‘العلاّنية’.
وعلى أهمية معرفة الكاتب بأعماله الأكثر جماهيرية التي بالضرورة تدغدغ مشاعر السواد الأعظم من الناس وتمسّ أكثر همومهم إلحاحا، إلا أنها تُشكِّل خطرا كبيرا على الكاتب لأنها تُشتّته عن تحقيق رؤيته الوجودية ومشروعه الفني الذي يُخالف مطالب ورغبات الجمهور في كثير من الأحيان. فالمبدع عادة ما يسبق عصره ويرى بنظرته الثاقبة ما لا يراه غيره أو ما تراه الأغلبية غير مُلحّ أو غير جدير بالاهتمام. ولابد أن يكون المبدع عنيداً بما يكفي ليلاحق ما يُمليه عليه حدسه و’أتيناته’ الإبداعية، فيتحدّى إملاءات محيطه بما فيهم جمهوره الوفيّ لأعماله- في كثير من الأحيان- أكثر منه.
فالقارىء حين يُفتَن بنص ما، فإنه يُركّز عليه بشكل لاواعي ويُبالِغ في تسليط الضوء عليه ويرفض النظر إلى أي نص عداه. وهو بذلك يحبس الكاتب في إطار نص لا يعلم أنه كتبه ليرتفع عليه ويتجاوزه إلى مدى أرحب منه! فقد لا يعرف القارىء أن الكاتب يحتاج إلى التحرر من نصّه لأنه يُلحّ عليه، بل يجتاحه بشكل يجعل عمل أي شيء سوى الكتابة- أو لَفْظ الكلمات في هذه الحالة- مستحيلا، ولا يعود الكاتب يعرف إن كان هو مَن ذَهَبَ إلى الكتابة أم أنها مَن أتَتْ إليه! بل إن تلك المعرفة لا تكون ذات أهمية بالنسبة إليه في تلك المرحلة، لأنه يكون أشبه برجل يريد أن يُطفىء شهوته بالقفز في بحيرة أو امرأة تحتاج التخفّف من عبء حزنها في مغطس ماء.!
إن الكتابة بالنسبة للكاتب- اعترف أم لم يعترف- هي عملية استكشاف متواصلة؛ استكشاف ذاته من خلال العالَم واستكشاف العالَم من خلال ذاته. هي ملاحقة لسهام الأسئلة المنطلِقة لِثَقْب بؤرة المجهول. هي مطاردة مستمرة لحالات انفعالية تتلبسّه وتترك له بضع كلمات يتتبّع خيوطها إلى نهايتها، فإذا بالخيوط تُكوِّن شبكة كلمات هي نسيج نص. الكتابة ركض بين أعمدة ‘الأسئلة’ التي ترتفع عن سقف ‘الممكن’ في معبد يشارف على الانهيار، في محاولة للقبض على نفحة ‘معنى’ بين الركام! هي رحلة ضياع صوفيّ في متاهات لا يشتهي الكاتب الخروج أو العودة منها، لأنها تكشف له عوالم الغيب وتجعله يقبض على فراشات الدهشة!
إن كل عمل إبداعي يمثّل ولادة جديدة للمبدع، يحتاج بعدها إلى إرساء مدى جديد تتطلّع إليه كينونته الجديدة التي تُلاحِق أسئلة جديدة. لهذا لابدّ للكاتب أن يتحدّى القوى التي تدفعه إلى الاستجابة إلى السائد من الصَرْعات الأدبية والتوقعات المهنية والمطالب الجماهيرية. لابد له أن يتمرّد على قارئه ومحرّره ومدير أعماله أولاً، لكي يكون قادرًا على التمرّد على أعماله وتجاوزها والخروج من بوتقتها.
لكن كيف يصل الكاتب والقارىء معا إلى منطقة وسطى بعيدا عن فرض التوقعات على الآخر أو حبسه في إطار أعمال سابقة من جهة، وعن فخّ الوقوع في أهوائه والابتعاد عن هموم قرائه من جهة أخرى؟ وهل هذا الاحتمال ممكن، أم أنه قرار لابد أن يتخذه الكاتب ويفرضه على الجميع بغض النظر عن نتائجه وتداعياته؟ هل مثلما يصير القارىء أحيانا أسيراً لنص بعينه، فإن الكاتب أسير أفكاره دائماً، وعلى رأسها: فكرة التحرر من نصوصه؟ هل الكاتب ضحية التجديد وأسير الابتكار ووهم الوصول إلى الرضا؟ هل هو تجسيد لعبثية الأسئلة واستعصاء الأجوبة؟
إن المبدع كائن منحاز للحركة كفِعل مقاوَمة لقانون الفناء. لهذا فهو ضد السكون بكل أشكاله لأنه بالنسبة له مؤشر من مؤشرات الموت، وهو ضد كل القيود لأنها تستفز الأصل في وجوده وتُعارض التجسيد الحقيقي لتعبيره عن ذاك الوجود: فعل الخَلق. المبدع ظِل ‘السؤال’، ينطلق ورَاءه ويُرافقه في رحلاته، ولا يعرف إن كان سيعود بجواب، بل لا يكترث إن كان سيعود من الأساس! قد ينجح في التحرّر من القيود بكل أشكالها الاجتماعية والحياتية، لكن القيْد الذي لا يستطيع الفكاك منه هو دائرة ‘السؤال’، التي تُدخِله بدورها إلى دوائر أكبر منها، تُنفِذ إلى بعضها ولا تنتهي!
يقول الشاعر اللبناني منصور الرحباني:”القناعة لا توصل إلى أي مكان ولا تحقّق شيئاً. المبدع يعيش مع المأساة التي تنتظره بنهاية مشواره. الموت وما وراء الموت. الإنسان جاء ليعرف. ينطح هذا الحائط المسدود ويعرف سلفاً أنه زائل (مائت) لكنه يبقى يتساءل: إلى أين؟”.*
فهل يُغرق الكاتب نفسه في دوائر الأسئلة لأنه يدرك حتمية فنائه، فيحاول تأجيل ذلك ‘الفناء’ ومراوغته بالكتابة؟ ربما هو سؤال جديد أنهي به سطوري لأبدأ رحلة جديدة أرواغ بها حتمية فنائي!
* من حوار له مع ميشال معيكي عام ١٩٨٩ نُشٍر بالمجلة التربوية على موقع المركز التربوي للبحوث والإنماء.