بني سبيل أم عباس في عهد الخديو “عباس حلمي” حاكم مصر، عام 1867،وأوقفه باسم والدته ‘زبيدة قادن’، ليشرب منه الناس الماء المبرد والمحلي بماء الزهر والورد. وليأخذ المسافرون بعض الراحة والطعام منه مجانا. كتب خطوطه وعباراته بخط الثلث وأبدع الخطاط التركي ‘عبدالله بك زهدي’. وكان الخديو قد استقدمه إلي القاهرة، وعهد إليه بكتابة الخط علي جدران هذا السبيل وجامع ‘الرفاعي’ علي مقربة بحي القلعة.
وكان سلاطين المماليك هم أول من اهتم ببناء الأسبلة، وأولوها عنايتهم، وأوقفوا عليها الأوقاف الواسعة، نصت وثائق الأوقاف في معظمها علي أن يكون الماء عذبا ومن النيل، وأن يتوفر الماء طوال العام صيفا وشتاء، وهي مسئولية ‘المزملاتي’، وهي وظيفة من يحصل عليها يجب أن يجتاز عدة شروط بحسب كتب الحسبة ووثائق الأوقاف، أن يكون نظيفا, جميل الهيئة، سليم البدن من العلل والأمراض المعدية، خاليا من العاهات، موضع ثقة، وأن يعامل الناس بالحسنى، والرفق، ليكون سببا في إدخال الراحة علي الواردين والقاصدين السبيل، كذلك يتولي نظافة السبيل، والعناية بالأدوات اللازمة له، مثل الكيزان، وأوعية الشرب، وأدوات التنظيف، نفس العناية الموجهة لتسبيل المياه، كانت أيضا تحيط بالأدوات المستخدمة، مثل الليف اللازم للتنظيف، والمكانس،دلاء الجلد، وأواني الشرب، والأسطال النحاسية، والأباريق،وقلل الفخار، والسفنج،وفوط المسح،وخصص أصحاب الأسبلة أماكن لحفظ هذه الأدوات, تعرف باسم ‘الخوستان’ أي الخزانة الخشبية، يزود ‘المزملاتي’ الأسبلة بالمياه طوال ساعات النهار،عدا رمضان، يبدأ بعد الغروب إلي ما بعد صلاة التراويح، والأمر لا يقتصر هنا علي البشر فقط، فقد عرف العصر المملوكي أيضا كثيرا من الأحواض الموقوفة، سبيلا لله لشرب الدواب.
في ‘مرج دابق’ شمال حلب. انتهي الزمن المملوكي. هزم الجيش المصري. وقتل السلطان ‘قنصوة الغوري’. بدأ الزمن العثماني. وطالت تغييراته القاهرة. في مناح شتي في الحياة. ظهر الطابع العثماني في العمارة. المختلف تماما عن نظيره المملوكي المصري. بمآذن المساجد النحيلة الخالية من أي زخرف. والعمارة البسيطة الخالية من الإبداع. ولكن بقي اهتمام بعض الأمراء بأعمال الخير. فاستمر بناء الأسبلة بعد عام 1517. لأنها ضرورة لاستمرار الحياة في المدينة. ولكن بعض التغيير لحق بعمارتها أيضا. فقد كانت في العصر المملوكي ملحقة بالمساجد أو تشغل ركنا منها. في العصر العثماني صارت وحدة معمارية منفصلة مستقلة.
في البداية كانت واجهة السبيل مربعة. تزينها نوافذ نحاسية جميلة. يمد المار يده من خلالها ليشرب الماء من حوض رخامي ناصع البياض يلي النافذة. وكان صهريج تخزين المياه. يوضع في مستوي أقل من مستوي الأرض. وفوق الجزء الأوسط المخصص لتقديم مياه الشرب يقع الكتاب. يصعد إليه الدراسون عبر سلم. يؤدي مباشرة إلي غرفة الدراسة الرحبة المحاطة بشرفة تتيح تجدد الهواء. تتوسطها قطع من المشربيات الخشبية الأنيقة. هذا النوع من الأسبلة في بلاد الشام وفي اسطنبول أيضا. وقد ظل الصراع بين العصرين العثماني والمملوكي. واضح جدا في بنيان الأسبلة. طراز الأسبلة المصري الأصيل الذي عرف في العصر المملوكي. وطراز الأسبلة العثمانية الوافد. ولكن مع بداية القرن التاسع عشر. بسطت عناصر العمارة العثمانية سطوتها. لم يختف الطابع المصري المملوكي. لكنه تراجع أمام نفوذ الآخر.
فكان سبيل ‘أم عباس’ نموذجا لهذا الصراع. فاستدارت واجهة السبيل. بعد أن كانت مربعة في السابق. وعلت نوافذه تقويسات لم تكن موجودة من قبل. وصارت له قاعدة تلتف حوله بدرجات من الممر. نفس هذا الطابع انطبق علي سبيل ‘محمد علي’ بالنحاسين المواجه لمجموعة آثار قلاوون. وسبيله بالعقادين المواجه لمسجد المؤيد. لكن المدهش أن هذا الصراع بين قوتين. إحتاج أكثر من 300 عام ليفرض سطوته كاملة. رغم أنه يملك قوة الحكم. وتلك هي الثقافة المصرية المتغلغلة في كل تفاصيل الحياة. حتي عندما بسطت سطوتها. كان العصر كله ينبئ بالزوال!.
عندما كانت تقودني قدماي إلي منطقة الصليبة. كنت أبذل جهدا بعيني للوصول إلي مكان سبيل ‘أم عباس’. يختفي خلف أكوام من الأوراق والمخلفات، وخلف أصوات الباعة الجائلين. ووجدته. علت التشققات جدرانه، وعلت الأتربة نافذته. وشعرت بالإهانة البالغة التي يشعر بها هذا السبيل الذي أوقف يوما لتكريم اسم أميرة، عنوان علي الطراز العثماني. أنشئ منذ 241 عاما، في 1867، ذا مبني فسيح متسع، رخامي الأرضية، سقفه ذا نقوش مذهبة، شبابيكه نحاسية صفراء، تتخللها دوائر عليها آيات قرآنية، كل هذه الفخامة والذوق، طمست لسنوات طويلة تحت طبقات من الأتربة. قبل أن تتم عملية ترميمه وصيانته، فبدت واضحة مرة أخري الخطوط المعمارية والهندسية العثمانية للسبيل، ويعد واحد من آخر سبيلين تم بناؤهما في القاهرة.
أما الثاني فهو سبيل ‘أم حسين بك’ نهاية شارع الجمهورية. قرب ميدان رمسيس. الذي بني عام 1869. بعدهما لم يبن في القاهرة سبيل. فقد بدأت شركة المياه تمد أنابيبها في أحياء القاهرة. وحل الصنبور العمومي محل السبيل. ثم دخلت المياة فيما بعد معظم البيوت. وصارت الأسبلة مجرد مبان أثرية .. يعاني معظمها الإهمال. ويتعرض للسرقة. ويستخدمها الباعة الجائلون لعرض بضاعتهم. هذه الأسبلة أثرت بشكل واضح علي كثير من الفنانين. لا سيما الخطاطون. فن الخط العربي الذي احتضنته مصر. وأفسحت له المجال. ليقدم نهضة واسعة. في الوقت الذي كان فيه هذا الفن. يلقي حربا في تركيا. ثم صارت هناك مدرسة للخط. افتتحها الملك ‘فؤاد’ عام 1922. خرجت أول دفعاتها عام 1925. وتخرج منها رواد فن الخط العربي في مصر في القرن العشرين. ومنهم الفنان ‘سيد إبراهيم’. الذي ولد في حي القلعة عام 1897. فكانت أول دروسه في آثار هذا الحي الأثري العريق. تأثر بشكل خاص بخط الثلث المكتوب علي ‘سبيل أم عباس’. كتب عناوين مجلات وصحف مصرية مثل: الهلال والمصور والبلاغ. وشارك في الحياة الثقافية بتأسيس رابطة الأدب الحديث وجماعة أبوللو. أورثته هذه الثقافة نظرات دقيقة في الخط العربي. وكان يري أن الخطاط العظيم لا بد أن يكون مثقفا ملما بقواعد اللغة العربية وتراث الأمة الإسلامية عالما بأئمة هذا الفن. وكان يدعو الخطاطين لكثرة التأمل والاطلاع علي النماذج الخطية الجميلة. توفي عام 1994 عن 96 عاما.
الموقع نيوز