على بعد أمتار من ميدان التحرير رمز الثورة المصرية تجد ميدان طلعت حرب (ميدان سليمان باشا) سابقا أحد أشهر وأهم الميادين في وسط البلد لموقعه في قلب القاهرة واتصاله بالعديد من الشوارع والميادين الرئيسية واحتفاظه بطابعه المعماري المميز فلم تنله إلي الآن يد التغيير والتشويه التي طالت بعض الميادين المهمة في القاهرة، اعتبره البعض منذ تخطيطه منبرا إعلاميا وشعبيا فمنه خرج موكب السلطان فؤاد أثناء عودته من البرلمان بعد أن حضر حفل تتويجه سلطانا على مصر وفيه نزل الزعيم سعد زغلول عندما جاء إلى مصر بعد منفاه في الخارج كما خرجت منه جنازة أمير الشعراء أحمد شوقي، وكان أميز ما في هذا الميدان، المكتبات مثل مكتبة مدبولي والشروق وغيرهما وبعض قاعات الفنون التشكيلية، إضافة إلي مقاهي ثقافية عديدة،وجلس على مقهى ريش في الميدان كبار المثقفين أمثال يوسف إدريس وصلاح جاهين وأمل دنقل في ندوة نجيب محفوظ،وعمارة يعقوبيان وجروبي أشهر معالم الميدان .
كان الخديوي إسماعيل يحلم بأن يحول القاهرة إلي مدينة تضاهي باريس في جمالها ورونقها وقام بجلب العديد من المهندسين الإيطاليين والفرنسيين لذلك وتم تشييد عمارات علي الطراز الأوروبي وعند الانتهاء من تشييد العمارات تمت تسمية الشارع والميدان ميدان سليمان باشا نسبة إلي سليمان باشا الفرنساوي مؤسس الجيش المصري في عهد محمد علي باشا وهو أيضا الجد الأعلي للملكة نازلي “زوجة الملك فؤاد” وقد توفي سنة 1870 ودفن في حي مصر القديمة ولا تزال منطقة مدفنه هناك تسمي (بالفرنساوي) نسبة إليه وقد تم وضع التمثال علي مسطبة لكن منذ يوليه 1893 أعيد نصبه فوق القاعدة الحالية وفي عام 1964 أنزل تمثال سليمان باشا من ميدانه هذا ونقل إلي مدخل حديقة المتحف الحربي بالقلعة ووضع مكانه تمثال طلعت حرب باشا فأصبح الميدان يعرف باسمه.
عندما أتجول في شوارع وميادين وسط البلد أشعر بأني دخلت ساعة الزمن لأعود لعصور الملوك والأمراء وهوانم العصر الملكي، مازال ميدان طلعت حرب يحتفظ في شوارعه ومبانيه ومحلاته القديمة بذكراهم، لذلك تعالوا معي في جولة عبر شوارع وميادين القاهرة الخديوية وبالتحديد ميدان طلعت حرب الذي يقع وسط القاهرة علي بعد 400 متر من التحرير جنوبا و775 مترا من ميدان التوفيقية شمالا، و850 مترا من ميدان عبدالسلام عارف شرقا، و400 متر من ميدان عبدالمنعم رياض غربا، ويمر به شارع محمد صبري أبوعلم وشارع قصر النيل وشارع بسيوني.
ولد طلعت حرب في 1867 بمنطقة قصر الشوق في حي الجمالية وكان والده موظفا بمصلحة السكة الحديد، وينتمي إلي عائلة حرب بناصية ميت أبوعلي من قري منيا القمح بمحافظة الشرقية حصل علي شهادة الحقوق عام 1889 وعمل مترجما بالقسم القضائي بالدائرة السنية وهي الجهة التي كانت تدير الأملاك الخديوية الخاصة ثم أصبح رئيسا لإدارة المحاسبات ثم مديرا لمكتب المنازعات خلفا للزعيم محمد فريد ثم تدرج بعد ذلك في السلك الوظيفي حتي أصبح مديرا لقلم القضايا وفي عام 1905 انتقل ليعمل مديرا لشركة كوم أمبو بمركزها الرئيسي بالقاهرة كما أسندت له في الوقت نفسه إدارة الشركة العقارية المصرية التي عمل علي تمصيرها حتي أصبحت غالبية أسهمها في يد المصريين كانت هذه الشركة بداية ثورة طلعت حرب لتمصير الاقتصاد ليمتلك القدرة علي مقاومة الإنجليز وقد قام بتأسيس مؤسسات اقتصادية متنوعة تحمل اسم مصر أهمها بنك مصر، شركة مصر للغزل والنسيج، شركة مصر للمستحضرات الطبية، شركة مصر للتمثيل والسينما وقد توفي عام 1941.
من أهم المحلات والمباني القديمة التي توقفت أمامها في الميدان محل جروبي الذي يطل بواجهته ذات الطراز المعماري الفرنسي فلم يكن مجرد مطعم ومقهي وإنما جاء كمشروع ثقافي يرسي ذوقا وتقاليد جديدة كان يقام فيه العديد من الحفلات الراقصة وتستقدم الفرق الموسيقية ويعرض في حديقته الخلفية عدد من الأفلام السينمائية أدخل جروبي عندما جاء في ثمانينيات القرن التاسع من سويسرا أنواعا جديدة من الشيكولاتة والعصائر والمربي والجبن، وتم تصوير العديد من الأفلام السينمائية بالمحل أشهرها فيلم العتبة الخضراء ويوم من عمري وعمارة يعقوبيان ومسلسل جمهورية زفتي، ومازال المطعم محتفظا بعلامته التجارية بحروف عربية وأخري لاتينية من يراها يدرك أنه أمام محل ذي طابع خاص وليس كبقية المحلات الحديثة كما يظهر المعمار الأوروبي لنهاية القرن التاسع عشر للعمارة التي تعلو المحل من الداخل لايزال يحتفظ ببعض الأثاث الذي يرجع لبدايات القرن العشرين كذلك نجد أن العاملين بالمحل محتفظون بملابسهم الأنيقة.
ويعد مقهي ريش من أهم معالم الميدان شيده تاجر ألماني عام 1914 ثم باعه إلي هنري بيير أحد الرعايا الفرنسيين الذي أعطي له اسم ريش لتشابه هذا الاسم مع أشهر مقهي في باريس الذي مازال قائما إلي الآن ويسمي (كافيه ريش) وقبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى اشتراه تاجر يوناني من صاحبه الفرنسي ووسعه وقد كان المقهي ملتقى الأدباء والمثقفين منهم نجيب محفوظ ويوسف إدريس وأمل دنقل ويحيي الطاهر عبدالله وصلاح جاهين وغيرهم ممن كانوا يحرصون علي حضور ندوات نجيب محفوظ الأسبوعية التي كان يعقدها كل يوم جمعة منذ عام 1963.
شغلت منطقة الميدان ثلاثة مقاه يطلق عليها البعض مثلث الرعب هذا المثلث الممتد بين طلعت حرب وشارع قصر النيل وهي كافتيريا النادي اليوناني والجريون وستوريل، يجتمع رواد هذه المقاهي علي الثقافة والسياسة والفن هذا بالإضافة إلي وجود أشهر مكتبة ثقافية في وسط البلد مكتبة مدبولي التي كتبت عنها مكتبة المخابرات المركزية الأمريكية CiA تقريرا حول الكشك الصغير في بدايته أن هذا الكشك الكائن في ميدان طلعت حرب أصبح ظاهرة ثقافية رائعة للمصريين ومعلما من معالم ميدان طلعت حرب.
أقدم شخص يعمل ويقيم في الميدان بعد الحاج مدبولي عم خليفة بائع العصي الذي يقف بجوار المكتبة، اقتربت منه لكي أسأله عن ذكرياته عن هذا المكان قال لي أعمل هنا منذ أكثر من 47 سنة عشت فيه أجمل أيام حياتي كنت أعمل في حمي الحاج مدبولي كنت أشاهد ممدوح سالم هو يسكن في ممر بهلر ونجيب محفوظ وجمال عبدالناصر كانا يمران في هذا الميدان،بهوات وباشاوات وشخصيات مهمة جدا بنظرة حسرة قال عم خليفة تحول الميدان الآن إلي محال للملابس وشنط وجزم ومكان لكل من (هب ودب)
ويقول سيد عبدالرحيم الذي يعمل في أحد المحال المطلة علي الميدان، تتميز المحلات الموجودة في الميدان بأنها تعمل منذ فترة طويلة ولم تغير نشاطها لذلك مازالت تحتفظ بطابعها المعماري مما ساعد علي عدم تشويه الميدان هذا بالإضافة إلي حملات البلدية التي أدت إلي عدم قدرة الباعة الجائلين علي الوجود في الميدان ولكن للأسف بعد الثورة أصبح الميدان متاحا للباعة الجائلين.