«كنا عيال أكبرنا 17 سنة، وكان ريش بالنسبة لنا كنز، تخيلي تبقي قاعدة كده مع نجيب محفوظ بتشربي عناب أو ليمون؟» بشغف وحماس حقيقين استعاد (خالد عباس، 50 عامًا)، أحد الزبائن الدائمين لمقهى «ريش» العتيق، ذكرياته مع المقهى وبداية اقتحامه لعالم المثقفين.
مقهى «ريش» أسسه رجل ألماني عام 1908، وباعه لـ«هنري بيير» أحد الفرنسيين المقيمين في مصر، الذي أسماه «ريش» على اسم أحد أكبر مقاهي باريس، وقبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى باع «بيير» المقهى لرجل يوناني، وقام بأعمال التوسعة والتحسين، وانتهى المطاف بالمقهي ليصبح في يد «مجدي ميخائيل» أول مالك مصري للمقهى.
كما قال عباس: «تخيلي تبقى بتشربي عِناب مع نجيب محفوط»، كان المقهى أكبر ملتقى للأدباء والمثقفين أمثال «نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأمل دنقل، ويحيى الطاهر عبد الله، وصلاح جاهين، ونجيب سرور، وغيرهم..»، وكان لنجيب محفوظ صالونًا يعقده عصر الجمعة من كل أسبوع، بدأه عام 1963 واستمر لأعوام.
طلبنا من «خالد عباس» أن يستفيض في الحديث عن «ريش» ويسرد ذكرياته معه، فقال:« مكانش ده شكله طبعًا، كان مفتوح مالوش سقف، بس كان متحاوط بسور خشب كده وواخد ناصية طلعت حرب، وكان كل اللي بيشتغلوا هناك الجماعة النوبيين، كانوا بيتغاظوا مننا جدًا، عشان كنا مفلسين، بنيجي نقعد طول اليوم ونشرب مشروب واحد، وهما طبعًا عايزينا نقوم أو نطلب غيره، مكانوش بيقولولنا نمشي، لكن كانت نظراتهم كفاية يعني لو إحنا عندنا دم عشان نقوم.. بس إحنا مكناش بنقوم».
وبسؤاله عن أبرز رواد المقهى، قال: «كتير، كل مثقفي وأدباء مصر وقتها، كل الناس كانت بتجتمع حوالين نجيب محفوظ وتسمعه، قبل نجيب، كان العقاد (عباس محمود العقاد) بيعمل صالون أدبي، وتوفيق الحكيم له صالون أيضًا، لكن أنا محضرتش قبل نجيب، الدنيا كانت أروق، وكان نجيب مبيحبش يتكلم في السياسة، قبل ما تتحول القهوة لمكان تجمع الثوار والمهتمين بالشأن السياسي».
وأنهى عباس حديثه قائلاً: «الوضع دلوقتي اختلف، والقهوة بقى معظم روادها أجانب، أنا مبقتش أروح زي زمان، لأنها بقت مكان بالنسبة لي مليان ذكريات أحداث وناس للأسف فقدناهم، متبقاش منهم غير عم فلفل».
عم فلفل
السيد محمد حسين صادق أو «عم فلفل» كما اعتاد رواد المقهى مناداته، وعم فلفل هو مصري بسيط جاء من النوبة في النصف الأول من القرن الماضي، وكان يبلغ حينها 14 عامًا، ليصبح جزءًا أصيلاً من مكونات المقهى.
عن «ريش» والسياسة
كان للمقهى دورًا كبيرًا في ثورة 1919، بعد أن حوله أصحابه إلى مكان لطبع المنشورات والمطبوعات السرية، ولا تزال تلك الآلة موجودة حتى يومنا، وقيل إن ضباط ثورة 1952 كانوا يلتقون فيه ويعقدون اجتماعاتهم هناك، وعلى رأسهم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، والرئيس الأسبق أنور السادات، وصلاح سالم، قبل أن ينقلوا اجتماعاتهم إلى مقر نادي محمد علي، الذي يبعد عن «ريش» مسافة 250 مترًا فقط.
وبعد هزيمة مصر في 1967، قام مثقفو وأدباء مصر، في المقهى بإعداد مجلة تخلي مسؤوليتهم أمام الشعب والتاريخ من الهزيمة، وتعلن فيها أن الهزيمة هزيمة جيش وحكومة، وفي عام 1972 انطلقت منه ثورة الأدباء، احتجاجاً على اغتيال الروائي الفلسطيني غسان كنفاني.
ضد «ريش»
وكما عهدناهم دومًا متمردين ثائرين، كان لنجيب سرور وأحمد فؤاد نجم رأي آخر في «ريش»، فالأول، الذي اعتاد في بداية حياته الجلوس على المقهى والاختلاط بالوسط الثقافي المصري، لكنه بعد وقت تمرد عليهم جميعًا، وكتب فيهم قصيدة طويلة تحت اسم «بروتوكولات حكماء ريش»، يقول سرور فيها:
«نحن الحكماء المجتمعين بمقهى ريش.. من شعراء وقصاصين ورسامين.. ومن النقاد سحالى «الجبانات».. حملة مفتاح الجنة.. وهواة البحث عن الشهرة.. وبأي ثمن.. والخبراء بكل صنوف «الإزمات».. مع تسكين الزاي.. كالميكانيزم.. نحن الحكماء المجتمعين بمقهى ريش.. قررنا ماهو آت»، ويبدأ في سرد «بروتوكولات هجائية ساخرة من كل رواد المقهى».
أما العم «نجم»، سليط اللسان طيب القلب، فكتب في هجاء مثقفي ريش في أحد مقاطع قصيدته التي غناها الشيخ إمام «يعيش أهل بلدي»:
«يعيش المثقف على مقهى ريش.. يعيش يعيش يعيش.. محفلط مزفلط كتير كلام.. عديم الممارسة.. عدو الزحام.. بكام كلمة فاضية.. وكام اصطلاح.. يفبرك حلول المشاكل قوام.. يعيش المثقف.. يعيش يعيش».
الموقع نيوز – أسماء مصطفى