المشهد الكارثي الذي عاشته عدة أحياء ومناطق معظمها راقية في القاهرة، نتيجة الأمطار المفاجئة التي شهدتها البلاد الأسبوع الماضي، كشف خللا عميقا طالما عانينا منه، وفشلت كل المسكنات في علاجه، ألا وهو فساد المحليات، الذي وصل حدا بات يستعصي على الحلول الجزئية والمواجهات المحدودة.
الأزمة الأخيرة التي اجتاحت معظم المدن الجديدة، التي مثلت أهم استثمارات الدولة في الثروة العقارية على مدى العقود الخمسة الأخيرة، أظهرت مدى الاستفحال الذي وصل إليه فساد المحليات والأحياء، وضعف الرقابة على الإنشاءات والتنفيذ، إلى جانب سوء التخطيط لمعظم المشروعات العقارية، والتي لم تعد قاصرة فقط على الأحياء الفقيرة، بل وصلت إلى أرقى الأحياء السكنية في العاصمة ممثلة في القاهرة الجديدة، وبخاصة ضاحية التجمع الخامس.
ولعل ما عانته كل من القاهرة الجديدة مؤخرا، والإسكندرية، والبحر الأحمر على مدى الأعوام الأخيرة، يكشف بوضوح الانتشار الجغرافي الواسع لمنظومة فساد المحليات، والتي تمتد بطول وعرض الخريطة المصرية، وباتت تمثل إهدارا لاستثمارات بمئات المليارات في ثروة عقارية وبنية تحتية صارت أضعف من أن تصمد لموجة أمطار غير متوقعة (!).
دراسة أجريت بمعهد التخطيط القومي قدرت الخسائر المترتبة علي الفساد وتأثيره المباشر علي الاقتصاد بنحو ٥٠ مليار جنيه سنويا، فضلا عما يسببه الفساد من هروب لرءوس الاموال المحلية والأجنبية، وهذه الفاتورة تتضاعف قيمتها أضعافا كثيرة إذا ما أضفنا إليها تلك الثروة العقارية المهددة، والتي تبلغ وفق بعض التقديرات غير الرسمية ١٠٠ تريليون جنيه.
ورغم أهمية الضربات القوية التي وجهتها هيئة الرقابة الإدارية خلال الأعوام الأربعة الأخيرة للعديد من “مراكز القوى الفاسدة”، والتي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في الإدراة المحلية، لا سيما بعد القبض على سعاد الخولى، نائب محافظ الإسكندرية السابق، ومن بعدها واقعة القبض على هشام عبد الباسط محافظ المنوفية، وهي مستويات كانت بعيدة عن قبضة الأجهزة الرقابية، إذ تركزت الضربات الرقابية على مستويات “الفاسدين الصغار”، والذي كان سقوطهم – في أغلب الأحيان- كبش فداء لفاسدين أكبر.. إلا أن تلك الضربات ستبقى محدودة الأثر ما لم تكن ضمن استراتيجية متكاملة للقضاء على الفساد.
ومن أهم الأسباب التي يطرحها المختصون في مكافحة الفساد لاستشراء هذا “الوباء” يأتي غياب الدور الرقابي على المحليات، فالإدارة المحلية لها شقان، الأول تنفيذي، ويتمثل في سلطات المحافظات والمدن والأحياء، والثاني رقابي، ويتمثل في المجالس المحلية، والتي تعاني غيابا تاما عن الساحة منذ سبع سنوات بعد حلها إثر حكم قضائي صدر في ٢٨ يونيو ٢٠١١ من محكمة القضاء الإداري يقضي بحل جميع المجالس الشعبية المحلية، والزام المجلس العسكري وقتها، ومجلس الوزراء بالتنفيذ.
ومنذ تلك اللحظة لم تشهد مصر أية انتخابات محلية، بعد أخر استحقاق لها في إبريل ٢٠٠٨، وطوال السنوات الماضية تكررت الوعود الحكومية بإجراء الانتخابات المحلية لكن دون جدوى، فالعقبة التي تدور حولها مبررات الإرجاء، كانت عدم صدور قانون الهيئة الوطنية للانتخابات، وهي الجهة التي نص دستور ٢٠١٤ على أن تتولى الإشراف على كافة الاستحقاقات الانتخابية، وبعد خروج تلك الهيئة إلى النور قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لم يعد من مبرر للإرجاء سوى عدم إصدار قانون الإدارة المحلية الجديد، وهو القانون الذي غاب في “دهاليز “ البرلمان لسنوات، ولم تغادر التصريحات الخاصة بقرب إصداره محطة الوعود.
وجاءت أحدث تلك الوعود بأن يتضمن الجدول التشريعي لمجلس النواب خلال دور الانعقاد الحالي إصدار قانون الإدارة المحلية في شهر يونيو المقبل، فيصبح أمام الحكومة فرصة من ٦ إلى ٨ أشهر، لإصدار اللائحة التنفيذية للقانون، وبالتالي، يتوقع إجراء انتخابات المحليات في النصف الأول من عام ٢٠١٩.
انتخابات المحليات، قطعا، لن تكون “عصا موسى” للقضاء على الفساد، لكنها بالتأكيد ستكون خطوة هامة على سبيل تلك المواجهة الحتمية، فمواجهة الفساد في مصر لا تقل أهمية عن مكافحة الإرهاب، لأن كليهما استنزاف طويل المدى وعميق الأثر لثروات الوطن ومقدرات شعبه.