لا ينكر احد الانجازات الضخمة التى نجح الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى تحقيقها و التى يعد ابرزها احد روسيا الى مكانتها كقطب رئيسى فى العالم .
ففى عهد الرئس السابق بوريس يلتسن كان الإنفاق العسكرى قد تراجع بشكل ضخم فى المجالات المتعلقة بالتسليح والإمداد والتموين، وبحكم تردِّى الأوضاع الاقتصادية الداخلية فى روسيا تراجعت الصناعات الدفاعية بشكل كبير، فروسيا التى خفضت انفاقها على الجيش من ٣٢٤ مليار دولار عام ١٩٩١ إلى ٨٧ مليار دولار عام ١٩٩٢ لم تعُد قادرة على تمويل تلك الصناعات الدفاعية، بل إنها عجزت عن توفير كثير من الخدمات اللازمة للعسكريين، بدءا بالتغذية الضرورية وانتهاءً بعدم الاهتمام بالجوانب الاجتماعية من الأساس، ناهيك بحرمان الجنود والضباط من معظم الامتيازات والحوافز التى كانوا يحوزونها فى الماضى.
أسهم فى حدوث هذا حالة التوجيه والشحن الإعلامى التى مارسها رجال الأعمال الموالون للغرب الذين تَحكَّموا فى روسيا فى تلك الطفرة ودعوا إلى خفض موازنة الجيش، زاعمين أن خفض النفقات العسكرية فعل ضرورى يتماشى مع إجراءات الإصلاح، تحت شعارات أن تلك العوائد الكمالية يجب أن تخصص فى اتجاهات أخرى (راقب أن تلك الطبقة كانت الأكثر فسادًا والمسيطرة على ما يزيد على ٧٠ ٪ من الاقتصاد الروسى )، وفر أغلب أبنائها هاربين إلى أوروبا بعد أن بدأت ملاحقتهم قضائيًّا كما أشرنا فى حلقات سابقة.
لقد تَسلمَّ رجل الكى جى بى حكم روسيا، ووضعها العسكرى فى مثل تلك الحالة المزرية التى تهدِّد روسيا بانهيار تامّ، لكنه منذ توليه موقع رئيس الوزراء سعى إلى تبنى خطة لإصلاح القوات المسلحَّة الروسية بدايةً من تبنيه ما عُرف باسم وثيقة الأمن القومى الروسى التى سنتحدث عن تفاصيلها لاحقًا وأقرها فور أون تولى موقعالرئاسة. لقد اعترف بوتن بواقع صار قائمًا على خفض القوام العددى للقوات المسلحَّة، وهنا سعى إلى تبنىِّ مقاربة مزدوجة تتبنى إصلاحًا يقوم على محدودية العدد والمحافظة على فكرة خفض عدد القوات فى مقابل رفع الكفاءة القتالية لها، وتقديم دعم حكومى واسع للصناعات الحربية، وزيادة ميزانية القوات المسلحَّة لتصل فى عام ٢٠٠٥ إلى ٢٧٫5 ٪ وتصل فى عام ٢٠١٢ إلى ما يقرب من ٦٤ مليار دولار بالإضافة إلى العمل على تصميم منظومات تسليح جديدة »لا مثيل لها «، كما أعلن بوتن، تتيج تفوُّقًا استراتيجيًّا أو اتزانًا فى مواجهة القوى المعادية لروسيا.
سعى بوتن إلى إحكام سيطرته على الجيش من قِبل أفراد موالين لسياسة بوتن نفسها بعد تعيين سيرجى إيفانوف (صاحب الخلفية المدنية) وزيرًا للدفاع، وهو الرجل القادم من داخل الكريملين والذى خدم مع يلتسن ومع
بوتن فى مواضع مختلفة أبرزها جهاز الاستخبارات الروسى (كى جى بى). وقد تلا إيفانوف فى موقعه أناتولى سيرديوكوف، الذى فى فترة توليه منصبه تغيرت الكوادر القيادية فى وزارة الدفاع بمقدار الثلثين، إذ قام سيرديوكوف بإقالة رؤساء الهيئات والإدارات الرئيسية فى الأركان العامة وقائدى سلاح الجو والبحر.
وقد استقال كل من الجنرال بالويفسكى رئيس هيئة الأركان العامة والجنرال ألكسندر روكشين رئيس هيئة العمليات فى الأركان العامة والجنرال يفغينى كاربوف قائد سلاح الاتصال فى القوات المسلحَّة لعدم موافقتهم على سياسة أناتولى سيرديوكوف.
ويقيمِّ كثير من الخبراء العسكريين نشاط أناتولى سيرديوكوف تقييمًا سلبيًّا لاتخاذه مواقف تجارية سطحية من معظم المسائل العسكرية التى تطال الأمن والقدرة الدفاعية للبلاد ولقيامه بمحاولات تطبيق طرق وآليات تجارية فى قيادة القوات المسلحَّة.
وقد أُعِيدَ تعيينه فى منصب وزير الدفاع فى حكومة مدفيديف فى مايو عام ٢٠١٢ ، ثم اتخذ الرئيس الروسى فى ٦ نوفمبر عام ٢٠١٢ قرارًا بإعفاء سيرديوكوف من منصب وزير الدفاع بسبب الدعوى القضائية التى تم رفعها ضد المسؤولين فى وزارته بتهمة الفساد واختلاس أموال الدولة. وكان قد سبق هذا الأمر لشائعات تنبأت باحتمالات إقالة سيرديوكوف فى أعقاب اعتقال عدد من مرؤوسيه فى قيادة وزارة الدفاع، من المسؤولين عن خصخصة وبيع مساحات كبيرة من الأراضى والعقارات المملوكة لوزارة الدفاع والإشراف على عدد من المشروعات السكنية والتجارية. وكشفت المصادر عن أن بوتن شخصيًّا كان وراء إصدار التعليمات بالتحقيق فى قضايا الفساد الخاصة بمؤسسة »خدمات وزارة الدفاع « التابعة للوزارة، التى تتهمها النيابة العامة ولجنة التحقيق المركزية بإهدار المال العام بقيمة تقدر بما يزيد على مئة مليون دولار. فتجاوزت حاجز ما كان مخطَّطًا له استراتيجية وعقيدة جديدتان للأمن القومى
عمل بوتن على تلك الاستراتيجية كما أشرنا منذ أن كان رئيسًا للوزراء فى عام ١٩٩٩ ، واعتمدها فور توليِّه موقع الرئاسة فى ما عُرف ب »تأسيس عقيدة عسكرية روسية جديدة .«
لقد حددت استراتيجية الأمن القومى نطاق أخطار تحيط بروسيا قائمًا على رصد محاولة عدد من أطراف المجتمع للدولى إضعاف القوى العسكرية الروسية، وتوسيعنطاق الأحلاف العسكرية وحلف الناتو شرقًا فى اتجاه روسيا بما يتيح وجودًا عسكريًّا على مقربة جغرافية من الحدود الروسية.
وهنا فقد تَبَنتَّ استراتيجية الأمن القومى الروسى مقاربة شاملة،ضمت أبعادًا عدة من بينها حتمية:
١- النهوض الاقتصادى.
٢- بناء علاقات متزنة خارجيًّا.
٣- تحسين أداء جهاز الدولة.
٤- وعسكريًّا فقد ضمنت استراتيجية الأمن القومى الروسية الجديدة أحقية روسيا فى إنشاء قواعد عسكرية على حدودها، واستخدام قواتها فى الخارج لحماية مواطنيها ومجموعات فى حفظ السلام التابعة لها، وحماية السواحل من القرصنة البحرية.
٥- تأكيد أحقية روسيا فى استخدام كل الأسلحة النووية لصد أى عدوان خارجى حينما تفشل الوسائل الأخرى التقليدية، وأحقية استخدام القوات المسلحَّة داخليًّا فى سبيل حماية الدستور، والتراب الوطنى، وبناء مجتمع صناعيًّا.
الفرق الجذرى هنا فى منظور الأمن القومى بين عهدَى يلتسن وبوتن،هو أن النظرية القديمة تقوم على إعطاء روسيا الحق فى استخدام السلاح النووى حال وجود تهديد يهدِّد وجودها، أما المقاربة التى تبناها بوتن فى استراتيجيته فتعطى روسيا الحق فى استخدام الأسلحة النووية فى حالة حدوث هجوم على روسيا على نطاق واسع بالقوات التقليدية، وذلكفى حالة الظروف الحرجة للأمن القومى.
وإن كان بوتن والإدارة الأمريكية فى عام ٢٠٠٢ قد تَبنيَّا اتفاقًا بين الجانبين يتيح تخفيض القدرات النووية للطرفين بما يضمن امتلاك روسيا ١٧٠٠ وحدة فى مقابل ٢٢٠٠ وحدة أمريكية، إلا أن بوتن سعى إلى تطوير كفاءة تلك القدرات النووية نفسها، وأعلن فى نوفمبر ٢٠٠٤ عن تطوير جيل جديد من السلاح النووى التى لا تملكه قوة أخرى فى العالم.