في تحول كبير، وافقت الحكومة التركية أخيراً على السماح للولايات المتحدة باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية، المنشأة الواقعة فى جنوب شرق البلاد لتنفيذ غارات جوية على مواقع تنظيم داعش.
وعلى الرغم من أن التفاصيل ما تزال محتجبة حتى الآن، فإن هذه الخطوة تبقى مهمة للعديد من الأسباب:
لأول مرة، يعطي الاتفاق الجديد للولايات المتحدة نقطة انطلاق أفضل بكثير لمهمات استهداف مواقع تنظيم داعش فى سوريا ، لا سيما فى العاصمة الفعلية للمنظمة الجهادية الفتاكة في مدينة الرقة السورية.
وتعني المسافة الأقصر أن الولايات المتحدة ستكون قادرة على تنفيذ مهمات لفترة أطول، وبطريقة أكثر فعالية في مهاجمة أهدافها.
ثانياً، والأهم، تشير الخطوة إلى توسع التورط التركي في الصراع السوري. فلعدة أشهر، كانت الولايات المتحدة وحكومات غربية أخرى تحاول أن تدفع أنقرة إلى مكافحة أكثر مباشرة للمسلحين المتطرفين على عتباتها.
وكانت الحدود التركية المسامية المليئة بالثغرات مع سورية قد سمحت لداعش بتهريب النفط من سورية، وجلب دفق مستمر من المقاتلين الأجانب إلى صفوفها.
كان التناقض في تركيا، ولا سيما تناقض رئيسها رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، معلقاً على وجهة نظر مختلفة للصراع والهدف من الحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة ضد داعش .
كان أردوغان أول زعيم عالمي بارز طالب برحيل الرئيس السوري المحاصر بشار الأسد.
وكانت حكومته قلقة أيضاً من المكاسب التي تحرزها الفصائل الكردية السورية. ولدى هذه الميليشيات علاقات عميقة بالفصائل الكردية في تركيا، بما في ذلك حزب العمال الكردستاني المحظور الذي يعتبر منظمة إرهابية في نظر كل من أنقرة وواشنطن.
ونتيجة لذلك، يقول بعض منتقدي حكومة أردوغان، وخاصة بين السكان الأكراد في تركيا، أنه كان يحرض داعش ضمنياً.
لكن التفجير الانتحارى الذى يشتبه أن داعش هى التى نفذته في بلدة حدودية في جنوب تركيا يوم الاثنين من الأسبوع الماضي، أفضى إلى ترجيح كفة الميزان على ما يبدو.
وفي وقت مبكر من يوم الجمعة الماضي، ضربت الطائرات التركية ثلاثة أهداف لداعش فى سوريا، فيما يفترض أنه أسفر عن مقتل 35 مسلحاً، مع صدور تقارير عن شن هجمات جديدة في اليوم التالي.
منذ فترة طويلة، ظلت القاعدة في إنجرليك، غير البعيدة عن مدينة أضنة التركية، حاضرة في صلب العلاقات الأميركية التركية. وقد أقامتها أول الأمر القوات الجوية الأميركية في العام 1951، لتكون مرفقاً لحلف شمال الأطلسي في ظل وجود الاتحاد السوفياتي. وعلى مدى العقود التالية، تم استخدام القاعدة كمنصة انطلاق لمجموعة من الطلعات الجوية ومهمات المراقبة، بما في ذلك خلال حرب الخليج الأولى.
في أواخر التسعينيات، كانت الدوريات التي تقودها الولايات المتحدة فوق منطقة حظر الطيران التي فُرضت في شمال العراق تدار من قاعدة إنجرليك. ويشرح ميكا زينكو، الزميل في مجلس العلاقات الخارجية، أنواع القيود التي وضعتها السلطات التركية على تنفيذ تلك المهمات الأميركية في ذلك الوقت.
عندما قادت الولايات المتحدة فرض منطقة حظر الطيران في شمال العراق من قاعدة إنجرليك الجوية في جنوب تركيا في الأعوام 1991-2003، كان مسؤول عسكري تركي برتبة عقيد أو أعلى يتواجد دائماً على متن طائرات سلاح الجو الأميركي من طراز “أواكس” التي ترصد المجال الجوي، للتأكد من أن الولايات المتحدة لا تنتهك بنود اتفاق تشغيل القاعدة الذي كان مقيداً للغاية.
مع ذلك، تغيرت الأمور بشكل كبير في العام 2003، عندما صوت البرلمان التركي ضد السماح باستخدام تركيا قاعدة لعمليات الغزو الأميركي للعراق. ولم تكن تلك الحرب تحظى بأي شعبية لدى الجمهور التركي. وكان حزب العدالة والتنمية من يمين الوسط الذي يقوده أردوغان قد صعد إلى السلطة قبل وقت قصير فقط في ذلك الحين، وأسس ذلك التصويت علامة فارقة في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، وهما البلدان اللذان يشكلان أول وثاني أكبر جيوش حلف الناتو.
بعد مرور أكثر من عقد على ذلك، ما يزال حزب العدالة والتنمية في السلطة، على الرغم من أنه خسرأخيراً أغلبيته البرلمانية في الانتخابات التي جرت الشهر الماضي. وخلال هذا الوقت، لم يُسمح للولايات المتحدة بتنفيذ طلعات قصف من قاعدة إنجرليك، على الرغم من إطلاقها مهمات للمراقبة بطائرات من دون طيار من هناك.
يشير اتفاق تركيا الواضح مع البيت الأبيض على السماح بعودة إنجرليك إلى العمل أيضاً إلى البعد التوسعي للحرب السورية.
وقد أشارت تقارير مساء الجمعة إلى أن الطائرات المقاتلة التركية أغارت أيضاً على مواقع لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق، فيما يبدو أن الصراع المستمر منذ عقود بين الثوار الأكراد والدولة التركية أصبح يعود إلى الحياة.
في الوقت نفسه، قامت الشرطة التركية بعملية اعتقال ضخمة لنحو 250 شخصاً يشتبه بأنهم متشددون من تنظيم داعش ومن حزب العمال الكردستاني في جميع أنحاء البلاد. وهذان الفصيلان مختلفان إلى حد كبير: أحدهما تنظيم سني أصولي متطرف، والآخر منظمة عرقية قومية مبنية على خطوط علمانية ماركسية لينينية بقوة. لكن السلطات التركية لا تعتقد أن إحدى المجموعتين أسوأ من الأخرى.
يقول هارون شتاين، خبير الشؤون التركية في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع لمجلس الأطلسي، في تصريح لموقع بلومبرغ: “تتسق هذا الغارات مع تصريحات تركيا العلنية حول النظر إلى حزب العمال الكردستاني و”داعش” باعتبارهما تهديدات متساوية”.
تشارك واشنطن أنقره في هذه الرؤية. فبعد كل شيء، كانت الولايات المتحدة قد أسقطت في العام الماضي أسلحة من الجو للفصائل الكردية السورية التابعة لحزب سياسي يعتبره البعض في تركيا “أسوأ” من داعش .
وقد أثبتت الفصائل الكردية في سورية وشمال العراق، بما في ذلك وحدات حزب العمال الكردستاني، أنها تضم بعضاً من أكثر المقاتلين موثوقية في الخطوط الأمامية ضد الجهاديين.
وهكذا، وبينما يبشر الاتفاق على إنجرليك بمرحلة جديدة من التعاون الأميركي التركي، فإنه قد يعكس الطبيعة المتصاعدة والمتوسعة لصراع إقليمي شديد الفوضوية أيضاً.