ظلّ اسمه ممنوعًا من التداول، ومحظورًا عن الذكر فى كتب التاريخ التى يدرسها الطلاب فى المدارس لمدة جاوزت العشرين عامًا، ظل خلالها تحت الإقامة الجبرية مع عائلته فى قصر المرج (وهو قصر كانت السيدة زينب الوكيل حرم الزعيم مصطفى النحاس، قد أعدّته لنفسها، ثم صادرته محكمة الثورة) ، كانت الحراسة مشدّدة على المكان، حتى أفرج عنه الرئيس السادات عام ١٩٧١ ، لكن رغم الإفراج الشكلى فإنه لم يغادر منزله.
لقد زرت ذلك البيت الموحش، ورأيت ما كتبه محمد نجيب على حوائط البيت من شعوره بالظلم والقهر والعسف، ذلك البيت الذى يحتاج إلى خارطة طريق لتطل إليه فى غياهب المرج الآن، فما بالنا بحال هذا المكان فى نوفمبر ١٩٥٤ !!
حدث مع نجيب كل شىء، جاء به الضباط الأحرار قائدًا عليهم، ثم صار رئيسًا للوزراء، ثم أول رئيس جمهورية، وبعدها أصبح أول رئيس معتقل، ورغم ذلك لم يستخدم أهله وعشيرته لإحراق وطنه، رغم أن قائدًا مثله له مريدون داخل الجيش وخارجه، بل وهناك دول تنتظر إشاراته لتتدخّل لكنه أبى، وتفرغّ لكتابة مذكراته.
ويذكر اللواء نجيب فى مذكراته، تحديدًا يوم ١٤ نوفمبر ١٩٥٤ ، إذ يقول: فى ذلك اليوم قال لى عبد الحكيم عامر، إن إقامتك فى فيلا زينب الوكيل، لن تزيد على بضعة أيام، تعود بعدها إلى بيتك ولكن من يوم دخلت هذه الفيلا، حتى أكتوبر ١٩٨٣ ، لم أتركها، نحو ٢٩ سنة، إنه الزمن يجبر الإنسان على الألفة والتعايش مع ما يحب وما يكره، ومع ما يريده.. حتى مع السجن والمعتقل.. وقد كان بيننا، أنا وتلك الفيلا المهجورة البعيدة عن قلب القاهرة بأكثر من ٢٠ كيلومترًا، ألفة وعشرة وارتباط.. وكان بيننا أيضًا إحساس مشترك بفقدان الحرية.. وهذا طبيعى.. فأوجاع السجان النفسية لا تقل عن أوجاع السجين النفسية.. والسجن نفسه يحزن على قدره الذى جعله يلعب دورًا لا يرضاه.. ولو أن فيلا المرج أحسّت بهذه الأحاسيس، فقد قُدّر لها أن تتحوّل من استراحة إلى معتقل وتتحوّل من تحفة إلى خراب.
قبل ثورة يوليو شارك نجيب فى حرب فلسطين، وكانت له شعبية كبيرة، ومكانة عالية بين الضباط، لذلك أجمعوا عليه، واختاروه ليكون رئيسًا لنادى الضباط، ذلك النادى الذى كان يعكس توجهات الحركة الوطنية، وكان يمثلّ خطرًا على الملك الذى كان ما زال يتذكّر ثورة عرابى على جدّه الخديو توفيق.
واللافت أن عرابى عاد من المنفى فى نفس العام الذى ولد فيه محمد نجيب !!
وتخرج نجيب فى الكلية الحربية فى نفس العام الذى ولد فيه جمال عبد الناصر وأنور السادات وأغلب أعضاء مجلس قيادة الثورة !!
حين بدأ الضباط الأحرار فى التخطيط للإطاحة بالملك فاروق، كان محمد نجيب اختيارهم الأول ليكون قائدًا للحركة، فهو رتبة كبيرة يثق فيها الضباط الصغار، ويطمئن لها الشعب، وواجهة مشرفة، وفى الوقت نفسه تكون بمثابة رسالة للملك وحاشيته أن ضابطًا برتبة لواء فى مقدمة صفوف الثوار، فلا داعى للمقاومة أو المكابرة.
فقبل نجيب، وشارك واشترك وحمل روحه على يده، ونجحت الثورة، وقرر مجلس قيادة الثورة أن يكون علِى ماهر باشا رئيسًا للوزراء، وحين استقال كان نجيب هو الاختيار الأول.
وبالفعل شكّل محمد نجيب أول وزارة فى ١٠ سبتمبر ١٩٥٢ بعد يوم واحد من تعيينه حاكمًا عسكريًّا .
وقد اتصفت مجالس الوزراء بدءًا بهذا المجلس بسيطرة الأعضاء البارزين فى تنظيم الضباط الأحرار وبشكل خاص أعضاء مجلس قيادة الثورة على المناصب الرئيسية مع تطعيم الوزارة ببعض العناصر التكنوقراطية التى يستدعى وجودها التخصص والخبرة.
وفى ١٨ يونيو ١٩٥٣ صار محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر العربية، وجمال عبد الناصر رئيسًا للوزراء، لكن فى مارس ١٩٥٤ تمت الإطاحة بمحمد نجيب، ورغم كل ما قيل عن أزمة مارس واختلاف الرؤى حولها، لكن المؤكد أن جمال عبد الناصر لم يعد يتحمّل أو يحتمل أن يظل يحكم من وراء ستار، وأن يظل يلعب دور الرجل الثانى، بينما الحقيقة أن الرئيس الأول كان الرجل الثانى فى مصر.