يبدو أن انعدام التجربة الحزبية وغياب المعارضة السياسية الحقيقية طوال عهد آل الأسد الذي امتد لثلاثة عقود في سوريا، قد أثر على تشرذمها وشتاتها بعد قيام الثورة، فضلاً عن التنوعات المجتمعية والطائفية التي أدمجها البعث الوحدوي في شخص قائده، قد وجدت رحابة وانطلاقًا تمخضت عن اتساع المشهد الحالي لممثلي المعارضة السورية، رغم احتواء كل فصيل منها على ممثلين لهذا التنوع على الأقل.
وهذا ما يجعل التفكير في المرحلة الانتقالية بعد الأسد ضرورة كبرى، ليس فقط لتطمين المجتمع الدولي واكتساب دعمه، ولكن أيضًا استعدادًا للفراغ الممكن نُتوجه عن سقوط هذا النظام في أي وقت، خاصة مع ما تحتويه سوريا من طوائف وأقليات تتميز بها عن سائر بلدان الوطن العربي، التي عانت طائفيًا في سياقات ما بعد الثورة، فضلاً عن المشاكل الصغيرة التي نشأت بين أطياف المعارضة السورية فرادى أو جماعات في الرؤى أو الممارسات.
لذا؛ فمن المؤكد أن سوريا ستواجه العديد من الأزمات في مرحلة ما بعد سقوط أو إسقاط الأسد؛ وذلك لغياب القيادة السياسية الفعالة بين صفوف المعارضة، ما يشير إلى احتمال سقوط البلاد في فوضى عارمة، ويقودنا هذا الوضع الذي يجمع بين اقتراب النصر على النظام والخوف من الفوضى بسبب غياب القيادة السياسية، إلى نوع من القلق على مصير الثورة من قبل الشعب والثوار في الداخل، كما يقود هذا الفراغ السياسي إلى مخاوف كبيرة على مستقبل الاستقرار في سوريا والمنطقة أيضًا في الخارج.
أضف إلى ذلك أن الشعب والثوار الذين يريدون تحقيق أهدافهم في التحرر وبناء سوريا جديدة ديمقراطية مدنية تعددية، تساوي بين جميع مواطنيها وتضمن حقوقهم، يخشون أن يؤدي غياب مثل هذه القيادة التي تضبط وقع الثورة وتوجه خطاها وتحظى بالثقة والتأييد وبالتالي وحدة التوجه والقرار، إلى وضعية تسود فيها الفوضى وتتصارع فيها القوى الثورية على اقتسام النفوذ أو المواقع، أو يسود فيها الانتقام بعد السقوط الحتمي القريب للنظام، ويتضاعف هذا القلق عندما يتعلق الأمر بثورة مسلحة، وبجيش تحرير مكون من كتائب لا تُحصى ولا تخضع في تنظيم صفوفها لأي هيكلية عسكرية نظامية أو سياسية، كما أن غياب قيادة سياسية واضحة لها الحد المطلوب من المصداقية لا يطمئن المجتمع الدولي، بما في ذلك أصدقاء سوريا؛ حيث إن انتشار السلاح على نطاق واسع في بلد يحتل موقعًا استراتيجيًا وجيوسياسيًا خطيرًا في منطقة ذات خطورة استثنائية، يُعد مؤشرًا كبيرًا على الفوضى العارمة التي سوف تعم بعد سقوط الأسد، عندما لن تجد البلاد أي مركز قرار واضح يجمع الناس ويضمن احترام الكتائب المسلحة للقانون وتعاونها والتزامها.
وفي نظري، فإن هذا الوضع يشكل التحدي الأكبر للثورة السورية، التي توشك على الانتصار، ويولد هذا الوضع شعورًا خطيرًا بأن مرحلة ما بعد السقوط يمكن أن تكون أقسى وتطرح مشاكل على البلاد أكبر مما هو الحال اليوم؛ حيث لم يعد للنظام أي نفوذ في أي ميدان، لكن وجوده الشكلي يساعد على توحيد قوى المعارضة المسلحة ضده، ويضمن القليل من الاستقرار وضبط النفس.
وتجنبًا لذلك، لا أجد بديلاً عن تنفيذ مجموعة من الإجراءات العملية والتنظيمية الممكنة، ولو بصورة مؤقتة، والتي تعمل على تقليل مخاطر ما بعد السقوط إلى أبعد حد؛ أهمها يكمن في العمل على بناء هيكلة ولو مبسطة لكتائب الجيش الحر بالانضواء تحت راية قيادة واحدة في مجلس عسكري يتجاوز فيها التشتت والانقسام، لكن من المهم أن يتحقق هذا الهدف تحت إشراف قيادة سياسية سورية، ومن ثمَّ العمل على توحيد المصادر التي تُغذي الجيش الحر والمقاومة، وتوحيد معايير التمويل والتسليح، والاستفادة من القوة العسكرية النظامية المنشقة بما تتمتع به من تنظيم ومزايا ميدانية، وبعد ذلك، السعي إلى انبثاق لجنة مبادرة وطنية تضم أهم الرموز الوطنية المشهود لها بالنزاهة والعدالة والاستقلال، على أن يلتزمون بعدم التقدم لأي منصب سياسي حتى تنظيم أول انتخابات رسمية قانونية، وتعمل خلال هذه الفترة كلجنة حكماء تقوم بالمصالحة بين الأطراف الشعبية والثورية والتوسط بينها؛ لتجنب التوترات والانقسامات أو تجاوزها، وكذلك تشكيل حكومة ظل مؤقتة تضمن وجود سلطة جاهزة لاستلام مؤسسات الدولة وتسييرها حال سقوط النظام، وتقضي على مخاوف انتشار الفوضى في الساعات الأولى من انهيار الوضع الراهن.
وإن لم يكن كذلك، فمن الممكن أن يواصل النظام السوري والمعارضة نزاعهما المسلح لسنوات، مما يسفر بلا شك عن سقوط المزيد من الضحايا، وفي حالة استمرار النزاع إلى الأبد، يمكن أن تنشق الدولة القومية السورية الحديثة إلى «علويين وسنة وأكراد»، وأن يكون لكل منهم منطقته الخاصة، أو يمكن أن تسعى البلد إلى الحفاظ على الحكم المركزي، ويشكل انهيار الدولة كليًا خطرًا على المجتمع الدولي بسبب مخزونات الأسلحة الكيمياوية السورية والفراغ الأمني، الذي يتيح فرص تأصُّل جذور الجماعات الإرهابية. وعلاوة على ذلك، يمكن أن يمتد القتال في سوريا إلى لبنان، الذي تصاعدت فيه التوترات السُنية الشيعية بالفعل.
وعلينا أن ندرك، أن طبيعة الفترة الانتقالية ستتأثر إلى حد معين بالكيفية التي يتوارى بها نظام الأسد عن المشهد؛ فإذا أبقت القوات الحكومية على تماسكها في الوقت الذي تنسحب فيه من قرية ومنطقة سكنية واحدة تلو الأخرى، فسوف يتاح للمعارضة الوقت لإرساء دعائم مؤسسات حكومية في المناطق المحررة، فضلاً عن أن قيام مرحلة انتقال مع قدر قليل من الاختلال قد يكون ممكنًا؛ حيث إن انهيار مفاجئ لقوات النظام من شأنه أن ينذر بمرحلة انتقال أكثر فوضوية، في الوقت الذي تندفع فيه قوات المعارضة المنافسة لملء الفراغ.
وبمجرد سقوط نظام الأسد؛ سوف تظهر مسائل جمة، بما في ذلك إمكانية تحرك المعارضة لتطهير موظفي النظام، أو تدمير المكاتب الحكومية ونهبها، وكذلك إمكانية اندلاع صراعات عنيفة على السلطة بين المعارضة، ويمكن لأي من هذه المسائل أن تعّرض عملية الانتقال الواعدة والمأمولة إلى الخطر، ونظرًا لأن معظم جماعات المعارضة متمركزة في الداخل ومجزأة للغاية، فلن تظهر على ما يبدو دولة موحدة ذات حكومة مركزية قوية في أعقاب الحرب الأهلية.
وهناك معضلة ستظهر في الأفق، ستؤثر على مسار أي انتقال بعد الأسد؛ تتمثل في أن الانتقال الأولّي الهادئ نسبيًا قد يزرع البذور لمشاكل تنمو فيما بعد؛ فحكومة سُنية ثورية في سوريا «سواء قومية أو إسلامية في توجهاتها» سوف تكون على الأرجح معادية لإيران ومتحالفة بصورة وثيقة مع «تركيا أو مصر أو السعودية»، وقد ترد «إيران وحزب الله» على ذلك بتقديم الدعم العسكري لعناصر النظام السابق؛ بهدف القيام بتمرد على الحكومة الجديدة، وإبقائها ضعيفة ومتركزة على تعزيز حكمها، ومنعها من مساعدة العرب السُنة في العراق، ومن المرجح أن تدعم الحكومة العراقية تحت رئاسة نوري المالكي، مثل هذه الجهود الإيرانية لأسباب خاصة بها.
وبالرغم مما سبق ذكره، إلا أن الأسد لم ينته بعد؛ كما يحتفظ بدعم الحلفاء، والأمر الأكثر أهمية هو أن الأسد على ما يبدو لا يزال يُحكم قبضته على القوات المسلحة السورية، فضلاً عن سيطرته على مخزون بلاده من الأسلحة الكيمياوية مما يمنحه القدرة على ارتكاب المزيد من العنف ضد شعبه، ومع ضيق نطاق الخيارات المتاحة أمام الأسد فقد أصبح يمثل خطورة متزايدة، وربما يميل إلى الهجوم بعنف في محاولة يائسة للتشبث بالسلطة، ولا تميل المعارضة إلى قبول أي تسوية يبقى بموجبها الأسد في سدة الحكم، ومع ذلك، فمن غير المرجح أن يرحل الأسد بسهولة.
وحتى في حالة رحيل الأسد، فلن تنته الأزمة بل ستنتقل إلى مرحلة جديدة، ويوجد خطر أن يعقُب انهيار نظام الأسد فترة من العنف الطائفي وحتى التفكك الإقليمي؛ حيث سينسحب العلويون والأكراد وغيرهم كل إلى معاقله، وسيؤدي مثل هذا العنف إلى تدفق أعداد أكبر من اللاجئين كما أن تعطل النظام المصاحب قد يجعل سوريا أرضًا خصبة للمتطرفين وتكون أسلحتها الحربية عرضة للانتشار، وقد يشكل ذلك خطورة ليس على سوريا فحسب وإنما على المنطقة المحيطة، لذا يجب على المجتمع العربي أولاً أن يلعب دورًا في صياغة نتيجة إيجابية للأزمة، وبوسعه أن يقوم بذلك.