في خمسينيات القرن الماضي قام العالم “ليونتيف” بتجربة اقتصادية، كان الاكتشاف الناتج عنها أن الدولة صاحبة الميزة التنافسية في إنتاج سلعة ما، تكون أكثر ميلا لاستيرادها، وهذا أمر غريب اقتصاديًا، لهذا سُمي هذا الاكتشاف بلغز “ليونتيف”.
وكان تفسير هذا اللغز أن المواطنين يميلون لزيادة استهلاك منتجاتهم ذات الميزة التنافسية العالية لدرجة تصل لاستهلاك كامل المنتجات ثم الاستيراد، وهذا واضح في استهلاك الأمريكان الشره للسيارات مثلًا.
لقرون طويلة اعتمد المصريون، خاصة في الدلتا، في سلة غذائهم على الأرز، نتيجة سياسات الري بالغمر وغسل التربة بمياه النيل لتقليل ملوحتها، ما أدى إلى زيادة كبيرة في إنتاج الأرز وبالتالي زيادة استهلاكه، والمصريون يقومون باستيراد الأرز وتصديره بكميات منخفضة مقارنة بعدد السكان، ولكن هذا الواضع آخذ في التغير بسبب تفشي الفقر المائي وأزمة سد النهضة.
في الأسبوع الماضي، وكنتيجة مباشرة لالتزام الحكومة الصارم بقرار خفض المساحات المنزرعة بالأرز، رفعت وزارة التموين سعر توريد الأرز من القطاع الخاص إلى 6300 جنيه للطن من 6100 جنيه وسط إحجام التجار عن البيع بعد خفض المساحة المخصصة للزراعة في الموسم الجديد. كانت الحكومة قد أصدرت قرارا يسمح بزراعة 724 ألف فدان من الأرز هذا العام، وهي مساحة تشير تقديرات التجار إلى أنها أقل من نصف مستوى 2017 البالغ 1.8 مليون فدان.
ولم تكن المساحة المقررة رسميا تزيد على 1.1 مليون فدان قبل ذلك، ولكن الحكومة كانت تتساهل في تطبيق حظر الزراعة خارج هذه المساحات. وقال رجب شحاتة رئيس شعبة الأرز التابعة لغرفة الحبوب باتحاد الصناعات المصرية “الأرز متوفر في مصر وليس به مشكلة.. أدخل أي متجر ستجد أنواع كثيرة منه متوافرة”.
وتبذل مصر جهودا دبلوماسية مع إثيوبيا والسودان للحفاظ على حصتها من مياه نهر النيل خلال فترة ملء إثيوبيا الخزان خلف سد النهضة الكبير، وقد تكون لسرعة ملء الخزان آثار مدمرة على المزارعين في مصر. وتبدأ زراعة الأرز في مصر خلال أبريل وموسم الحصاد من منتصف يوليو.
بالطبع ستحدث بعض التأثيرات السلبية على المواطنين وأسواق الغذاء بسبب خفض كميات إنتاج الأرز، ولكن يبقى ضرر الاستمرار في زراعته أكبر بكثير، حيث يبلغ نصيب المواطن المصري حاليا من المياه حوالي 600 متر مكعب سنويا، ما يعني أننا لسنا فقط فقراء مائيا، ولكننا قريبين للغاية من “الشح المائي”، هذا في الوقت الذي تستهلك فيه زراعة الأرز حوالي 27% من إجمالي حصة مصر من مياه النيل التي تبلغ 55.5 مليار متر مكعب سنويا.
مع استمرار الضغط الحكومي على زراعة الأرز سيرتفع سعره في السوق ويقل اعتماد المصريين عليه، وستظهر بدائل له كما في باقي دول العالم شحيحة المياه، وبمرور الوقت سيقل اعتماد المصريين على الأرز كمصدر رئيسي للغذاء كما انخفض اعتمادنا على القطن المصري في الملبس.