كاتبة المقال: كيرى إيجان، تعمل فى رعاية المرضى فى كارولاينا الجنوبية، وهى مؤلفة كتاب “
Fumbling: A Pilgrimage Tale of Love, Grief
” و”
Spiritual Renewal on the Camino de Santiago
“أعلم بأنه يفترض بأن أكره جسدي”، تقول مريضة بلهجة جنوبية أمريكية، خلال إبعادها غذائها المكون من كتلة بنية اللون، وبعض البرتقال، ابنها أنفق الكثير من الأموال لتحظى بطعام يقل من الدسم والسعرات الحرارية ويخلو من الصوديوم لتصل هذه الوجبات إلى عتبة المنزل، خلال وجودها وحدها، ريثما ينهى ابنها عمله.
بدت وكأنها كومة من الحجارة المرصوفة فوق بعضها، تقول المريضة المصابة بالسرطان بتنهد: “
سأموت سعيدة لو سمح لى فقط بتناول قضمة من كيك الكراميل
— مريضة
“، لقد كنت راعيتها، نظرت إلى وسألتني: “لا أفترض بأنك تملكين بعضاً من ذلك الكيك؟”
أجبتها: “كلا للأسف ليس لدى بعض منها، ولكن لم يتوجب عليك أن تكرهى جسدك؟”
نظرت بعيداً ضاحكة قائلة: “لأننى سمينة يا كيري!”، مسحت بيديها الناعمتين على صدرها وبطنها المتآكل بالسرطان، وقالت: “أعلم ذلك منذ أن كنت صغيرة”، نطقت الجملة وهى تنظر إلى البطانية المجعدة الممتدة فى حضنها.
“لقد أخبرنى الجميع بذلك، عائلتى ومدرستى وكنيستي، وعندما كبرت بالسن أخبرتنى المجلات والبائعات والأحباء، حتى ولو لم ينطقوا بتلك العبارة، فإن العالم بأسره استمر وعلى مدى 75 عاماً بإخبارى بمدى سوء جسدي، أولاً لكونى أنثى، ثم لكونى سمينة ومن ثم لكونى مريضة.”
نظرت إلى الأعلى، هذه المرة امتلأ جفناها السفليان بالدموع، “إن الأمر الوحيد الذى دار فى ذهنى على الدوام، كان تساؤلى حول السبب الذى يدفع الجميع على إجبارى لكره جسدي، لماذا يهمهم الأمر لهذه الدرجة؟”
لقد شاركنى المرضى الذين رعيتهم العديد من الأحلام والأمانى التى لم تتحقق، ولكن الوقت الذى أمضوه وهم يكرهون أجسادهم أو يسيؤون إليها أو يسمحون لغيرهم بالإساءة إليها، تلك السنوات التى يقيضها الناس وهم غارقون فى مراحل متقدمة من كره أجسادهم حتى يقترب الأوان لمغادرتها، هى أكثر الأوقات حزناً.
وهو أمر محزن أكثر لأنها ليس مثل الأخطاء أو الهفوات أو الحوادث التى تجرى فى حياة المرء والتى يمكنه تغييرها، بل هو تصرف مقصود، إنه تصرف ينجم عنه شعور يملى على الشخص، وهو أمر يرغب الغير بأن تصدقه.
وفى بعض الأحيان يبنى هذا الشعور على الأجساد التى يصفها الغير بأنه غير جاذبة، قد يشعرون بالعار من وزنهم أو من شعر أجسادهم أو من شفاههم الصغيرة أو العينين الذابلتين.
لكن يمكن لهذا الكره للجسد أن يتأصل من الدين، خاصة عند التفكير بالمعاصى التى يمكن أن يقدم عليها الإنسان باستخدامه، فاللوم وحده قد لا يقع على عاتق وسائل الإعلام أو المحيطين بالشخص فى توليد هذا الحس بالعار، قد يأتى هذا الشعور من قسيس فى صلاة الأحد، أو الدروس التى يتلقاها المرء فى منزله منذ الولادة، وحتى بعد التخلص من حليب الأم.
بعض النساء يعتقدن بأنه بمجرد تواجدهن فى أجسام قد تكون جاذبة للجنس الآخر هو أمر يدعو للعار، وآخرون يشعرون بالذنب لتواجدهم فى أجساد يمكنها أن ترتكب المعاصي.
فى كلتا الحالتين فالرسالة الناجمة هى ذاتها: إنهم يعيشون حياتهم وهم يرون فى أجسامهم مجرد امتحان يتوجب عليهم تحمله، مادة يتم انتقادها وكرهها، وفى أسوأ الحالات يرون بأجسادهم مشكلة لن يتمكنوا من حلها على الإطلاق.
وفى أغلب الأحيان، فإن المرء لا يتمكن من تقدير أهمية جسده إلا عندما يقترب من مغادرته، خاصة فى حالات المرض، أخبرتنى مريضة إنها ستشتاق لجسدها، رافعة ذراعيها عبر أشعة الشمس المتسللة عبر نافذة غرفتها، ونظرت إليهما كما لو كان اللقاء الأول.
وأضافت: “
لن أخبر زوجى وأطفالى بهذا، ولكن أكثر شيء سأفتقده بعد رحيلى هو جسدي
— مريضة
، إنه من رقص وأكل وسبح ومارس الحب وأخرج الأطفال، إنه لأمر مدهش التفكير به، إنه الجسد الذى انبثق منه أطفالي، وحملنى فى هذا العالم.”
أنهت جملتها وأنزلت ذراعيها، لتكمل: “وسأضطر لتركه، لا أملك الخيار فى هذا، وأفكر فى السنوات التى قضيتها وأنا أنتقد مظهره، ولم أقدّر يوماً جماله، حتى أتى الوقت الذى لا يشعرنى فيه هذه الجسد بالراحة.”
إن الصحة ليست ما يتمنى هؤلاء المرضى لو أنهم قدّروه مبكراً، إنها تجربة العيش فى هذا الجسد، وهو أمر يأخذه معظمنا من المسلمات، حتى يدرك بعضنا بأنهم سيغادرون أجسادهم عما قريب، ومهما تعدد إيمانك بما يمكن أن يحصل لك بعد الموت، سواء كانت حياة آخرة أو العودة شكل آخر، أو لم تؤمن بما بعد الموت، فإن جميع هذه النتائج ستصب فى حقيقة واحدة: إنك لن تتمكن من خوض تجربة الحياة فى هذا العالم بهذا الجسد مجدداً، ومن منا يوشك على الموت يواجه هذا الواقع كل يوم.
ويبدأ المرضى بسرد أفضل ذكرياتهم بهذه الأجساد، كيف كان طعم التفاح الذى سرقوه من حديقة الجيران، وكيف كان شعور الأرجل والنفس عند الهروب من موقف أو شخص ما، شعور المياه فى السباحة، رائحة رؤوس مواليدهم، نسيم الهواء بعد ممارستهم الحب لأول مرة.
والرقص، لقد سمعت الكثير من القصص حول الرقص: الرقص الهادئ خلال الحرب العالمية الثانية، الترنح بين أكواخ الشاطئ فى جنوب كارولاينا، والليالى الطويلة من الرقص فى مختلف الأماكن، قد لا أتمكن من عد الحالات التى قامها بها المرضى، الرجال أكثر من النساء، بإغماض أعينهم والقول: “لو كنت أعلم بأننى سأغادر، لرقصت أكثر.”
ورغم أن هذه الأمانى والمآسى التى يشعر بها المريض بالحزن، إلا أنها تثير أسئلة حول الحياة التى يعيشها البقية، لمذا توجد هنالك الكثير من الأصوات التى تخبرنا بأن أجسادنا هى شيء يجب علينا كرهه؟ لأنها سمينة؟ بشعة؟ جاذبة؟ مسنة؟ بنية؟ ولماذا يجب علينا أن نقنع بعضنا بآلاف الطرق الهادئة والصامتة بأنه يجب علينا بأن نشعر بالعار من أجسادنا؟ وأنها مشاكل يمكن تخطيها إم بالشعور بالعار؟ أو بالصبر والتحمل؟
ولماذا يتوجب على هذه الأصوات بأن تخبرنا الأثر الذى تحدثه أجسادنا وكيف تملى علينا كيفية التعاطف مع المرضى وذوى الاحتياجات الخاصة والمسنين والأطفال والأمهات والجنود والعمال والمهاجرين، نساء ورجالا؟
إن كيفية معاملتنا لأجسادنا تؤثر على معاملتنا الآخرين أجساداً وأشخاصاً.
سألتنى مريضتى المولعة بالكيك خلال خروج ذراعيها من فتحة قميص النوم الصغير: “أتعلمين يا كيري؟ رغم أنى كنت سمينة، ورغم أنى كنت حاملاً بطفل عندما لم أكن متزوجة، ورغم أنى صارعت السرطان لعشرين عاماً، وسقط شعرى منذ سنوات عديدة، فإننى لا أكره جسدي، كانوا مخطئين، ولطالما سيخطئون بذلك.”
وأضافت: “علمت بأنى سأموت ولمدة طويلة، عندها اكتشفت ما كنت أفعله، وقررت بأن أكون سعيدة مهما حصل، إن همى الوحيد هو الآن: كيف سأتمكن من تهريب بعض من كيك الكراميل إلى هذا المنزل؟”