كتب : دكتورعلي أنور العسكري
بداية أتوجه بهذا المقال مخاطباً: السادة، وأقصد بهم أهل النخبة من المنوط بهم مقاليد الأمور في هذا البلد، وأعني بهم المسئولين بالحكومة والرئاسة.
أما المواطن المعني، فهو المواطن المصري الذي أعيته السبل للحصول علي حقوقه بالطرق المشروعة، ففقد الإحساس بالمساواة لغياب العدالة الإجتماعية، وغلب عليه الشعور باليأس والإحباط، خاصة بعدما كشفت عنه ثورة 25 يناير من فساد الطبقة الحاكمة، فحاول بطريقته الخاصة أن يحصل علي بعض حقوقه التي عجز النظام السياسي عن تحقيقها علي مدار عقود طويلة من الزمن، وأبسطها حقه في المسكن الملائم لأسرته، والعمل الشريف لأبنائه.
هكذا دُفع هذا المواطن، وهو نفسه ذلك المواطن الذي قام بثورة 25 يناير إلي ثورة من نوع آخر، هي ثورته علي الطبيعة لتسكين أسرته، وتوظيف أبنائه فقام بثورة البناء المخالف أو البناء علي أرض زراعية.
أيها السادة: المواطن المعني هنا هو المواطن المصري الشريف الذي لم يتعد علي أملاك الدولة الخاصة أو العامة، أو الذي حصل علي أراضي للإستصلاح (كما فعل آخرون) وحولوها الي منتجعات سياحية أو ملاعب للجولف أوالسباحة، ولكنه المواطن الذي بني علي أرضه التي اشتراها من حر ماله، أو ورثها كابر عن كابر، والآن هو ملاحق و مطلوب محاكمته بقانون البناء الموحد الذي يسري علي المدينة والقرية والنجع في آن واحد (سبحان الله)، وهو قانون ظالم صدر عن مجلس فاسد ليعالج إختلالات مالية لا ذنب له فيها، وليكون مورداً للجباية لسد عجز الموازنة العامة بعدما أفلستها النخبة الحاكمة من رجالات الأنظمة البائدة.
أيها السادة: تعالت الأصوات للمناداة بمصالحات، بعضها تمت مع الأكابر ممن حصلوا علي أراضي للإستصلاح فحولوها الي منتجعات سياحية، وأخري مع المتعثرين والمستثمرين ورجال الأعمال والمتهربين من الضرائب، كما نسمع عن مطالبات بإجراء مصالحات مع فلول النظام السابق، والجماعات الإسلامية ومنها الإرهابية والتكفيرية، وذلك سعياً وراء الإستقرار، ولكن أليس من بين هؤلاء من هو أولي بالمصالحة وهو المواطن المصري الشريف.
أيها السادة: هذا المواطن المخالف بالبناء علي الأراضي الزراعية أولي من غيره بالمصالحة للأسباب التالية:
• لأن هذه الفئة (الفلاحون) يشكلون ما يقرب من 40% من سكان مصر، وإذا اضفنا إليهم من خالفوا التراخيص في المدن والقري والنجوع بواقع 10% لأصبحت هذه النسبة تعادل 50% أي بما يعادل نصف الشعب المصري.
• نحن دائماً ما ندعو الله أن يعين الحكومة علي مجابهة الانفلات الأمني والأخلاقي ومحاربة الإرهاب، فلا داعي لفتح جبهات جديدة من الصدام بين الشعب والحكومة بهدم مساكن المواطنين وتشريد أبناؤهم لاسيما وأنه لا يوجد بديل.
• أن المُطالب بهدمه الأن أصبح يشكل قيمة مضافة للاقتصاد الوطني شئنا أم أبينا، وهو أفضل بكل المقاييس من إقتصادات ريعية أخري تدعمها الدولة، ولابد من الاعتراف بالواقع والتعامل معه، ومصر أحوج إلي كل هذه الأموال والممتلكات وأحوج إلي سكانها.
• لابد أن نفرق بين مواطن بني علي أرضه وملكه، وبين آخر تعدي علي أملاك الدولة العامة أو الخاصة، وهو ما لا يجب أن تأخذنا به الرحمة أو الشفقة ( رغم أن الدولة تقنن أوضاعهم وتشرع في تطويرها كما هو الحال في العشوائيات وأغلبها علي أملاك الدولة).
• أزعم أن هذه المخالفات ساهمت في حل قدر كبير من مشكلة الإسكان في مصر، وهي التي عجزت الحكومات السابقة عن حلها، كما أوجدت فرصاً للعمل بالعديد من الحرف الصناعية والتجارية، وكانت بمثابة الإقتصاد الرائج خلال الفترة من بداية ثورة يناير وحتي الأن، وأقرر بأنها التي حفظت الإقتصاد المصري من الإنهيار خلال هذه الفترة.
• تنادي الحكومة بالتصالح مع أصحاب الاقتصاد السري (غير المشروع) وتقدم لهم العديد من المزايا والإعفاءات للإنخراط في الاقتصاد الرسمي، أليس المواطن المصري المخالف هو الآخر يستأهل المصالحة بما أضافه للاقتصاد الرسمي.
• من الظلم تطبيق قانون للبناء الموحد علي المدينة والقرية والنجع، حيث الاشتراطات البنائية تختلف كما أنها لم توضع للعزب والنجوع من الأساس.
• خزانة الدولة خاوية، وتحتاج إلي أموال، ويمكن التصالح مع هؤلاء بفرض غرامة مناسبة للمدينة والقرية والنجع، وحل هذه المشكلة دون صدام، طالما لا يشكل البناء خطراً علي الأرواح أو تعدياً علي الممتلكات العامة.
• لا يجب أن نحمل المواطن المصري خطأ الحكومات السابقة بعدم التوسع في الرقعة الزراعية علي مدار 60 عاماً، ثم نفرض عليه أن يظل قابعاً في مسكنه القديم مع أسرة تضاعف عددها، وأبناء لا حول لهم ولا قوة في مجتمع أغفل مطالبهم المشروعة عن عمد أو جهل، ثم نطالب المحللين وعلماء النفس بالبحث عن الأسباب الحقيقية وراء تفشي الفساد المالي والأخلاقي في المجتمع المصري.
• لا يجب أن تخدعنا حملات الإزالة التليفزيونية، فبعد إنتهاء التصوير تعود الأمور الي أدراجها، ويجب أن ندرك أن الكتل الخرسانية لا يمكن أن تعود أرضاً زراعية مرة أخري، أياً كانت التكاليف وأياً كان من سيتحملها، وهي في النهاية تصيب المواطن المصري أو الاقتصاد المصري.
أيها السادة: لا تتمسكوا بحرفية النصوص في قانون ظالم صدر للبناء الموحد، فهناك العديد من القوانين سيئة السمعة صدرت لمحاربة الإحتكار، وقد تم تكريسه، ولتنظيم القطاع العام، وتم بيعه، وتحجيم أجهزة الرقابة عن دورها، ولمحاربة الفساد في المحليات وقد تفشي، فمصر تحتاج إلي حلول غير تقليدية، فالخزانة خاوية والدواء مر، ولكن يجب أن نتجرعه حتي تخرج مصر من كبوتها، وأدعو النخبة الحاكمة، ومعالي رئيس الجمهورية، أن ينحازوا إلي الشعب مرة أخري، وأن نبحث عن سبل للمصالحة مع المواطن المصري في صورة غرامة تتناسب مع مكان البناء، مع الإبقاء علي ما يصلح وهدم ما لا يصلح فنياً وهندسياً، وتوجيه هذه الموارد إلي ممر التنمية لنخرج من الوادي الضيق، إلي حياة أرحب وأفضل، وأن يتم إصدار تشريعات حاسمة وصارمة تمنع الجريمة قبل وقوعها.
أما وقد وقعت، فهي كطفل السفاح، إذا ولد لا يجوز قتله بإجماع الشرائع السماوية، وهذا ما نأمله إن شاء الله.