التصوير الشعبى .. فن البسطاء الذى يعبرِّ عما يحمله وجدانهم، آلاما وأفراحا، آمالا وانكسارا، واقعا وأسطورة، بطولة وانهزاما. لذلك كانت الصورة أبلغ وأعمق وسيلة للتعبير عن هذه الأحوال التى أفرزتها ثقافة العامة، وهى فى ذات الوقت الأقرب إليهم من حيث التأثير والنفاذ إليهم.
وهو أحد الروافد المهمة فى تصنيفات الفنون الشعبية الموسيقى والرقص والألعاب الشعبية والفنون المادية كالرسم والنقش والنحت والعمارة والأثاث والأزياء والصناعات والحرف المختلفة.
ولعله ذلك الفن الفطرى الذى ارتبط بكل هذه الفنون بما أفرزته ثقافة الناس على مر السنين، وتحدده مجموعة من الخطوط والألوان والأشكال، إما لتزيين البيوت والأوانى وتطريز الملابس، وإما لتجسيد الحكايات الأسطورية والسِّيَر التاريخية، وإما يكون موضوعه الدين لبث معانى التقوى والهداية والسلوك القويم فى النفوس، ويتميز التصوير الشعبى بتعدُّد مجالاته وتنوُّع تعبيراته للدرجة التى نراه معها متجسدًا فى أشكال أخرى من الفنون والحرف بوسائل متعددة.
تطوره عبر التاريخ
عرفت مصر فن التصوير الشعبى منذ عصر ما قبل الأسرات، ومارسته عبر وسائل متعددة، فى مجال التصوير على الحائط كانت الرسومات تعبرِّ عن موضوعات الصيد، بزخرفة الأحجار مثل التى توجد فى مناطق عديدة من النوبة، فكانت تلك الرسومات مؤشرا حقيقيا على طبيعة حياة الناس وأوضاع العصر الذى يعيشون فيه.
وفى عصر الأسرات الذى شهد ازدهارا كبيرا، حيث كانت الرسومات تتميز بالمرح وغياب القيود، مثل ما نجده فى مقابر مدينة الأقصر، بينما فى عصر الدولة الوسطى التى مرتَّ بسلسلة من الانكساراتوالمجاعات انتشرت النقوش الجنائزية.
وفى الدولة الإسلامية ظلت الرسوم الحائطية منتشرة، لتزيين جدران القصور والبيوت والحمامات الشعبية، وابتكرت العامة تصوير المراسم الدينية على الحوائط مثل رسومات الحج ورموزه، وعبارات الترحيب بالعائدين من الأراضى المقدسة، إلى جانب زخارف بيئية أخرى لها دلالات مختلفة، عبرت عن العادات والتقاليد السائدة فى كل عصر.
أما الرسم على الورق، فارتبط هذا الفن فى مصر بالعهد الإسلامى، عندما نشطت حركة الترجمة والتأليف، لتزيين محتويات المخطوطات وأمهات الكتب، كما ظهرت رسوم »صندوق العجائب « الذى يتناول موضوعات دينية وشعبية من خلال لوحات تُعرض فى إطار شريط ينظر إليه الناس عبر ثقوب داخل صندوق كبير.
وامتاز المصريون فى فن آخر هو الوشم، إذ كانت المرأة الفرعونية ترسم وشمًا أسفل الوجه وتحت الشفة، وعلى ظهر اليد والرسغ، أما الرجل فيضع صورة لطائر ما على الصدغ.. وفى العهود الإسلامية أدخلت أشكال أخرى على رسومات الوشم مثل النجمة والهلال.
فى مقابل الرسم على جلد الإنسان، برع المصريون فى التصوير على جلود الحيوانات، ويتجسد ذلك فى مسارح خيال الظل التى انتشرت فى المسارح منذ قرون عديدة، ولكنها اختفت الآن.
انتشرت أيضًا فنون التصوير على النسيج، خصوصًا عند البدو ومدن وقرى الصعيد، وكانت الرسوم مستوحاة قديما من الفنون اليونانية والرومانية فى العصور الوسطى.
الفنان الشعبى
من أبرز سمات الرسام الشعبى عدم التزامه بتراكيب فن الرسم من الناحية الرياضية والهندسية التى تُدرسَّ فى الجامعات والأكاديميات، سواء للشكل أو المضمون، ولكن نجد المحركِّ الأساسى لأعماله تدفُّقه التلقائى غير العابئ بالقيود التى تكبلِّ فطرته، مستمدًّا أفكاره من البيئة المحيطة به، فجاءت تلبية لاحتياجات حياتية وسيكولوجية وجمالية لها خصوصية جديرة بالتأمُّل والدراسة.
ومن أبرز الفنانين المعاصرين الذين كانت الموضوعات الشعبية حاضرة فى أعمالهم الفنان حلمى التونى، الذى استوحى عالَمه التصويرى من العناصر الشعبية المعروفة، فنجد فى لوحاته بروزا واضحا للرموز، فالسمكة رمز للخصوبة، والوردة للحب، والشمس هى الضياء، والفارس رمز للرجل، والسيف للعدالة، وتصويرات أشبه بحكايات “ألف ليلة وليلة “.
وبطولات أبى زيد الهلالى، وسيف بن ذى يزن، وزرقاء اليمامة، وذات الهِمَّة. ويأتى اسم النحات السيد عبده سليم، صاحب التماثيل الأشهر فى ميادين وشوارع مصر الآن، عبد المنعم رياض وطه حسين وأحمد شوقى ونجيب محفوظ، حلقة مُهِمَّة فى تاريخ فن التصوير الشعبى، إذ كانت الأسطورة محورًا أصيلًا فى أعماله استلهامًا من التراث منذ عهد الفراعنة، فجاءت منحوتاته العديدة لحورس وإيزيس وأوزوريس، وكذلك لم تغِب الرموز الشعبية فى أعمال أخرى جسَّدَت الحصان المجنحَّ رمزًا لأسطورة البراق، وتمثال الديك تعبيرًا عن اليقظة، وتجسيده للثور الذى يستخدمه الفلاح فى زراعة الأرض، وكذلك رؤيته المرأة عبر الأزمنة من الملكة إلى الفلاَّحة، مُبرِزًا فى كل منحوتة أبعادًا جديدة لجمالياتها وتأثيرها فى المجتمع.
التعبير عن البيئة فى حكايات مصورة
قِدَمُ فن التصوير الشعبى فى مصر هو مرجعية الفنانين فى إثراء أعمالهم، فعبرََّت عن عراقة وأصالة الشعب المصرى فى مختلف المجالات، وقد استمدَّ رواد الحركة الفنية الحديثة كمحمود مختار ومحمد ناجى وسعد كامل عناصر أعمالهم من التراث الشعبى، المتمثل فى المرأة الريفية وموكب المحمل والألعاب الشعبية وعادات أهل النوبة، واتجه فنانون آخَرون مثل عبد الهادى الجزار وجمال السجينى إلى تأصيل بعض الرموز الشعبية فى أعمالهم، اعتمادًا على رسوم الوشم والسيرة الهلالية والمطبوعات الشعبية.
الفنان العالمى محمود سعيد، خريج أكاديميات فرنسا، الذى تَأَثرَّ بالمدارس الكلاسيكية الغربية، لم يستطع هو أيضًا تجاوُز الروح الشعبية كمكوِّن للشخصية المصرية، وأبدع منها لوحات نالت شهرة واسعة مثل الدراويش والشادوف وبنات بحرى وبائع العرقسوس وبنت البلد والشحاذ و ذات الرداء الأزرق .
وبعيدًا عن حالات الاستلهام التى أثْرَت الحياة الفنية فى مصر فى مراحلها المختلفة، نتوقف تحديدًا عند التصوير كما جسَّدَه الفنان الشعبى، الذى استمدَّ أعماله من بيئته وتراثه الحضارى، فتناولت أعماله موضوعات البطولات والفروسية، كما فى سيرة عنترة بن شداد، وسيرة بنى هلال، والزير سالم، والظاهر بيبرس، وصلاح الدين الأيوبى.
واحتلتَّ الموضوعات الدينية مكانًا بارزًا فى الرسوم الشعبية،إذ كانت وسيلة لتعليم العقائد لدى العامة الذين يجهلون القراءة والكتابة، فنجد الرسوم المستوحاة من آيات القرآن الكريم وقصص الأنبياء والصحابة غلبت عليها الرمزية، تجنُبًّا للتجسيد الذى يحرمِّه الإسلام، ومن أبرز الرسوم الدينية سفينة نوح، ومراسم الحج، وتجسيد المعارك الإسلامية.
الرسوم الشعبية تناولت أيضًا الحكايات الأسطورية مثل تصوير عالَم الجن وحكايات عروس البحر، واحتفال وفاء النيل عند قدماء المصريين.. وكانت كل تلك الرسوم حافلة بالرموز التى تحمل دلالات عن اعتقادات المصريين فى بعض الأمور، فمثلا كان الأسد رمز القوة، والحصان رمز الفروسية، والسيف للبطولة، والثعبان نذير الشر، والكف والعين تعبيرًا عن الحسد، والغراب للتشاؤم، والحمامة رمزًا للسلام.
ولم تقتصر الرموز فى اللوحة الشعبية على الحيوانات، بل شملت معها الأشكال الهندسية، فكان المربع رمزًا للتوازن، والدائرة تعبيرًا عن القدسية، والخطوط المتعرجة رمزًا للتدفق كأمواج المياه، لذلك نجد هذه الرسومات على الأوانى الفخارية مثل القُلَل والأباريق، وقد استُخدمت الأشكال الهندسية كافة فى رسومات متداخلة لتشكِّل تكوينات، كما هو الحال فى فنون التطريز والسجاد والمصوغات وغيرها.
وكما كان للشكل نصيب فى الرسوم الشعبية، كان للون حضور لافت، فرمز اللون الأبيض إلى النقاء والسلام، والأسود إلى الحزن، والأخضر إلى التعبير عن النماء، والأزرق إلى اللُؤّم، والأحمر إلى المحبة والخطر معا، والأصفر إلى المرض.
سمات خاصة
أبرز عديد من الدراسات خصوصية كل مجال من تلك الفنون عن الآخر، وفى ما يخص التصوير الشعبى أوضحت الدراسات انفراده بمجموعة من السمات ذات الدلالات والمعانى الإنسانية، منها أنه:
• أبعد ما يكون عن التعقيد، وعليه تتحقق فيه عناصر التشويق والمتعة.
• تبرز فيه اهتمامات الفنان بالوحدات والألوان.
• تقوم موضوعاته على المحاكاة المستنبَطة من الواقع والبيئة المحيطة.
• اللون فيه محور أساسى تدور حوله العناصر الأخرى فى اللوحة.
• هو الفن الزخرفى الذى يتفاعل فيه التشخيص مع الألوان، وتتداخل فيه الرموز والكتابات لإخراج عمل فنى شامل تتذوقه العامة والخاصة.
لذا ففن التصوير الشعبى دعوة صريحة للتحرر من قيود الحياة ونزوع النفس إلى الحزن، هو تمرُدّ إبداعى لتجسيد معانى الفرح والمتعة، وإن انحصرت فى إطار لوح محددة الأبعاد.