لم أكن راغبا في الانزلاق إلى هذه القضية التي باتت -بكل أسف- محور حديث المصريين، إعلاما ونخبة ومواطنين، على مدار الشهور الماضية.. وفي المقابل، تم تهميش كافة القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية التي نعاني جميعا منها، ليُختزل حديثنا اليومي حول هذا التساؤل: هل سيترشح وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، لمنصب رئيس الجمهورية؟ .. وتنعقد الأحاديث وتدور المناقشات على شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد، وبين أفراد العائلة، وفي تجمعات الأماكن العامة والمقاهي ووسائل المواصلات، وربما صالونات الحلاقة! .. وينهمر سيل التنبوءات والتوقعات والتحليلات “فوق الاستراتيجية!” .. وتتصاعد الخلافات بين مؤيدي السيسي، الذين يرونه زعيما ومنقذا، ومعارضيه سواء الذين يعتبرونه قائدا للانقلاب على الشرعية! أو من ينظرون إليه بأنه يقود انقلابا ناعما على ثورة 25 يناير! .
واستجابةً لرغبة الجماهير التي تبدو مُصرّة على استمرار هذه المعركة اليومية، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا؛ قررت أن أشارك في هذا الحديث المجتمعي الذي كان أحرى بنا ألا نوليه هذا الاهتمام الواسع، وأن نلتفت لأمور وقضايا أخرى أراها أهم وأجدى وأكثر نفعا، ولكن هذا قدرنا، فليكن ..
أولاً: أظن أنه لا أحد يختلف على تمتع المشير السيسي بشعبية حقيقية وواسعة، ربما لم يتمتع بها غيره على مدار الأعوام الثلاثة الماضية منذ اندلاع ثورة 25 يناير المجيدة. وسبب هذه الشعبية -حسبما أرى- يكمن في أن قطاع عريض من المصريين يشعر بالحاجة الملحّة إلى “مُخلّص” يلتف حوله، ويأيده، أملاً في الخروج من “دائرة الفراغ” التي عاني منها الوطن طيلة الفترة الماضية. وساهم في تعزيز هذا الشعور، سوء فترة حكم الإخوان وفشلهم الذريع في إدارة البلاد، ثم انحياز المؤسسة العسكرية ممثلة في شخص وزير الدفاع لرغبة ملايين الشعب فور الخروج الكبير الذي شهده يوم 30يونيو، وإقرار خارطة طريق أجمع عليها ممثلي القوى الوطنية والسياسية.
ومع اعتراضي على فكرة “المُخلّص”، وإيماني بأن المُخلّص -غالبا- لا يُخلّص، وأن الخلاص يكمن في بناء دولة مؤسسات، وحكم القانون، بعيدًا عن ثقافة الفرد والشعبوية المسفّة، إلا أن هذا الخيار يبدو منطقيا لشعوب عانت عقودا من غياب الديمقراطية، وتجريف البيئة السياسية، فضلا عما عانت من جهلٍ ومرضٍ وفقر.. وأتمنى أن نتخطى كل ذلك تدريجيا مع اتساع مساحة النضج المجتمعي التي أراها تسير بحركة منتظمة، حتى وإن كانت بطيئة.
ثانيًا: كان واضحًا من اللحظة الأولى بعد هتاف المواطنين في 30يونيو:”أنزل يا سيسي..مرسي مش رئيسي”، وجود احتمالية كبرى ليصبح وزير الدفاع رئيسًا عما قريب، زادت تلك الاحتمالية مع تصاعد المواجهة بين الدولة والإخوان، ومع حالة العراء والوهن التي عانت منها القوى المدنية، وتخاذلها عن فرض نفسها كبديل ثالث، وأصبح في تقديري قرار الفريق أول “سابقا” بخوض الانتخابات أمرًا محسوما، وأن المسألة مجرد وقت.
ثالثا: لست يائسا أو متخوفا كقطاع من شباب 25يناير -الجيل الذي أفخر بالانتماء إليه- من مجيئ “السيسي” رئيسا للبلاد، بعد أن يستقيل من منصبه، ويطرح نفسه كمرشح رئاسي، لأنني أعلم يقينا أنه سواء نجح في المضي نحو الطريق السليم والانحياز للديمقراطية والعدالة الاجتماعية والعمل على حل مشكلات الوطن المتجذّرة، وعلى رأسها الاقتصاد والأمن، من خلال إدارة رشيدة وبرنامج واقعي، أو لم ينجح في ذلك، فنحن نسير نحو غدٍ أفضل.. لأنه إذا تمكن من تحقيق كل ما سبق، فسيكون في ذلك خيرٌ له ولنا ولهذا الوطن الذي أتعبه السقمُ، أما إذا جنح لرقعاء القوم الذين يريدون الحفاظ على ما تبقى من دولة الفساد “المباركية”، فإيماني أن هذا الشعب قد أدرك طريقه، وأن سجن طرة لا يزال متسعا، ويبدو مرحبا بأن يستقبل رئيسا ثالثا، حتى وإن كان هذا الرئيس عسكريا ممسكا بأجهزة الدولة، كما كان مبارك، أو يتمتع برصيد شعبي واسع كما اغتر يوما مرسي وجماعته، وأعجبتهم كثرتهم، وأفتنتهم الصناديق التي قالت “نعم”.