1 ) هو عالم أكثر من كونه كاتبًا، ومفكِّر أكثر منه باحثًا، لكن مؤلفاته وحدها جعلته واحدًا من أولياء الكتابة الصالحين إنه الدكتور جمال حمدان، صاحب ملحمة شخصية مصر ، و اليهود أنثربولوجياَّ و استراتيجية الاستعمار والتحرير و 6 أكتوبر فى الاستراتيجية العالمية ، وغيرها من المراجع المهمة الفذَّة.
لكن رغم كثرة مؤلفاته وأهميتها فإنه لم يتكسَّب منها، فقد عاش زاهدًا، يكفيه كوب لبن، وكوب زبادى، وكسرة خبز، ويجلس فى الصيف مرتديًا بنطلون وفانلة ، وفى الشتاء يرتدى روبًا قديمًا أحمر اللون، فوق البيجامة، وبيته لا توجد به قطع أثاث إلا فى أضيق الحدود، فالصالون بسيط والستائر بالية، والأرضية من الخشب، والحوائط معلقَّة عليها ورقة لمصر للطيران ومذياع أثرى، ومجموعة من الكتب -التى توجد فى سحارة لا مكتبة – والصحف التى يقوم بقراءتها بشكل منتظم.
لكن رغم هذه الحياة التى يصعب تصويرها وتصوّرها، فإن جمال لم يلهث خلف أضواء الشهرة بحثًا عن المال، ولم يتسللَّ لدخول التاريخ من الأبواب الخلفية، ولم يحاول التسويق لنفسه من خلال وسائل الإعلام، ولم يكن يقبل المساعدة من أحد أيًّا كانت درجة حبهّ وتقديره له، لذلك لم يتردَّد أن يقطع علاقته بالكاتب الكبير أحمد بهاء الدين – الذى كان واحدًا من أقرب الناس إلى قلبه- عندما كتب يطالب المسؤولين عن جامعة القاهرة بإعطائه مقابلاً ماديًّا محترمًا يكفل له حياة كريمة، وعندما أرسل إليه الأستاذ هيكل التليفزيون الفرنسى لعمل لقاء معه بمقابل مادى كبير، رفض عمل اللقاء لشعوره أنه نوع من المساعدة.
وحين ذهب إليه الأستاذ هيكل، وطرق باب بيته دون ميعاد سابق، لم يفتح له الباب، وبعدها أرسل إليه الأستاذ برقية، جاء فيها ” لم أتجاسر هذه المرة أن أطرق بابك على غير موعد، وهكذا إنى أكتب إليك لأقول إننا عدنا إلى القاهرة بعد غياب أسابيع، وكما اتفقنا قبل أن أسافر فإنى أترك لك اختيار الوقت الذى تراه مناسبًا كى نلتقى مرة أخرى. ولست أعرف المواعيد المناسبة لك فى الأسبوع القادم الذى يبدأ من السبت الأول من يونيو، لكنه سوف يسعدنى إلى أبعد حد أن أسمع منك، ومع التحية أرجوك أن تقبل صادق الود والتقدير .
2 ) قليلون اخترقوا حاجز صمته، وعبروا باب شقته، ورأوه فى سنوات عزلته، وجلسوا بصحبته، وتحدَّثوا معه خلال ثلاثين عامًا قضاها بمفرده.
إنه العالم والمفكِّر جمال حمدان، الذى ولد فى ليلة النصف من شعبان، يوم الأربعاء، ٤ من فبراير عام ١٩٢٨ .
هناك فى قرية ناى، إحدى قرى مركز قليوب بمحافظة القليوبية، وضعت زوجة الأستاذ صالح مدرس اللغة العربية، مولودها الرابع جلال، الذى كان تناديه أسرته باسم لولو ، وكانت تطلق عليه جارته الإيطالية اسم جمال، وحين ذهب لتحرير استمارة امتحان الشهادة الابتدائية واكتشف أن مسئول السجل المدنى أخطأ وكتب جمال بدلاً من جلال ، حاول تغيير اسم ابنه، لكن جهوده باءت بالفشل، ليصبح لديه جمال الدين وجمال (وفق كلام أخيه عبد الحميد) .
لكن جمال واحدًا فقط هو الذى سيخلد اسم عائلته إلى الأبد، لكنه سيحيا وحيدًا فى مجتمع لا يقبل العباقرة ولا يفسح لهم المجال، لذلك قررَّ منذ البداية أن لا يكون شبيهًا بأحد، وكتب على حياته بخط عريض ممنوع الاقتراب أو التصوير .
3 ) فى الثالثة والنصف من عصر يوم السبت الموافق ١٧ أبريل عام ١٩٩٣ شعر سكان العقار ٢٥ بشارع أمين بك الرافعى فى الدقى، برائحة حريق هائل تخرج من الشقة رقم واحد، فسارع أحد الجيران نحو عساكر الأمن الموجودين أمام البيت المجاور رقم ٢٣ الذى كان يسكن فيه فاروق سيف النصر وزير العدل آنذاك، وبالفعل جاء الحراس وكسروا باب البيت الذى لم يفتح طوال ثلاثين عامًا إلا لمرات معدودة وبمواعيد محددة وبطرقات مميزة – بمساعدة بعض الأهالى، ليجدوا هرم الجغرافيا الأكبر فى تاريخ مصر الدكتور جمال حمدان، قد سقط على الأرض محروقًا !!
بادر أحد الأشخاص بالاتصال بمطافئ وإسعاف الدقى، ليبلغ عن احتراق رجل فى شقته، وبعد دقائق معدودة حضرت المطافئ، ثم بعد نصف ساعة جاءت سيارة الإسعاف، وليتها ما جاءت، لأن السادة المسعفين بعد أن حملوا الجثة إلى خارج الشقَّة ألقوا بها على الأرض عندما تأكَّدوا أن الرجل قد مات وبالتالى خرج عن دائرة اهتماماتهم !!
وقالوا لجيرانه الذين ازدحم بهم مدخل العمارة اتصلوا بقسم الشرطة هو المسؤول عن الموتى ، وتركوا جثتَّه على الأرض وذهبوا ليعيش العالم الكبير غريبًا – بل مُهانًا – فى وطنه حيًّا وميتًا! ربما لو كان لاعبًا أو راقصة لقامت الدنيا برحيله، لكن عمومًا هى دى مصر يا جمال .
رحل جمال حمدان بعد أن قضى ثلاثين عامًا بمفرده دون أنيس أو جليس، بعد أن قرر أن يعتزل النساء أيضًا، فلم يتزوَّج الإنسانة التى أحبهَّا فى بريطانيا وتدعى وليما وظلتَّ تلازمه فى كل شىء طوال سنوات الجامعة، وكانت تدرس علم المصريات بنفس الجامعة التى يدرس بها، لكنها لم تتقبلَّ فكرة أن تعيش معه فى مصر، فعاد وتركها – على حد تعبير أخيه الدكتور عبد الحميد حمدان- ودخل عزلته ولم يفكِّر فى الخروج مرة أخرى لصخب الحياة ، بل قال بوضوح فى أحد حواراته لن أخرج حتى ينصلح حال المجتمع، ولا أعتقد أن هذا سيحدث .
رحل عبقرى الزمان والمكان دون أى اهتمام من مسؤولى الدولة الذين ذهبوا فى هذا اليوم إلى تركيا، للقيام بواجب العزاء فى رئيس وزرائها فى الوقت الذى كان فيه عالمنا الجليل ملقى على الأرض ينتظر مَن يحمله إلى قبره، لتخرج جريدة الأهرام الغراء فى اليوم التالى تعلن الحداد ثلاثة أيام، لا لوفاة واحد من أساطير العلم فى مصر وإنما لوفاة سيادة رئيس وزراء تركيا، أما التليفزيون المصرى الرائد فلم يذكر فى نشرة السادسة ولا حتى التاسعة فى نفس اليوم أو حتى فى اليوم التالى خبر وفاته، فى حين أنه فى بلاد أخرى يقطع التليفزيون إرساله لمن أقل منه منزلة، ربما لو نحَّى هذا العالم علمه جانبًا وسخَّر كل جهوده واستثمر كل مواهبه فى العلاقات العامة والدعاية لنفسه، ربما وقتها كان له شأن آخر وعرفه جيرانه الذين يسكنون أمامه حين سألتهم عنه قالوا بدهشة معقولة كان فى عالم كبير ساكن قصادنا .