ارتبط رمضان بعد الإسلام بالكثير من المناسبات والعادات والتقاليد الجديدة التي ظهرت ولم يكن العرب يعرفونها من قبل من بينها (المسحراتي).
المسحراتي هو رجل يطوف بالبيوت ليوقظ الناس قبيل أذان الفجر؛ يضرب على الطبلة ويردد بعض (اللزمات) من قبيل : (قم يا نائم وحد الدائم) أو (سحور يا عباد الله) وأحيانا ينادي أهل الحي كل بإسمه نظير أجر رمزي يجودون به عليه، وقد يصاحب المسحراتي ابنه الذي يرث هذه المهنة من بعده.
وهي عادة تكاد تكون مشتركة بين الدول الإسلامية وخاصة في القرى الريفية ولكن المدنية تكاد تقضي عليها.
المسّحرتي هو الرجل المميز في رمضان٬ وينحصر عمله في ذلك الشهر٬ فهو الذي يوقظ الناس للسحور، ولكل حي مسحر أو أكثر حسب مساحة الحي وكثرة سكانه.
ويبدأ المسحر جولته قبل موعد الإمساك بساعتين٬ يحمل طبلته بحبل في رقبته فتتدلى إلى صدره٬ أو يحملها بيده٬ ويضرب عليها بعصا خاصة. وكان يرافقه شخص آخر يحمل الفانوس٬ لما كانت إنارة الشوارع محدودة.
ثم اختفى الفانوس وبقي المسحر الذي يعرف أصحاب الدور٬ فيقف عند أبواب بعضهم ويصيح باسمه ليوقظه، ويردد أثناء تجواله بين الأزقة عبارات مختلفة تتناسب مع شهر رمضان منها: “يا نايم وّحد الدايم… يا نايم اذكر الله… يا نايم وّحد الله …قوموا على سحوركم…”
كما يردد أحياناً المدائح النبوية. وكان الجميع يعتمدون عليه في نهوضهم للسحور. أما اليوم فلا يرغب بعضهم بالاستيقاظ للسحور٬ أو يفضلون الاستيقاظ في وقت معين معتمدين على ساعة المنبه٬ وقد ينبهون المسحر ليخفض صوته عند مروره بهم.
وكان للمسحر ثلاث جولات: إحداها يومية تشمل كل الحي لإيقاظ الناس وقت السحر٬ والثانية يومية تشمل بعض الأحياء بالتناوب لجمع الطعام والمساعدات٬ ويصطحب معه في هذه الجولة مساعداً ليحمل سلة وبعض الأطباق لوضع ما تجود به العائلات من أطعمة٬ ويضطر لوضعها مع بعضها في طبق واحد أحياناً.
لذلك يتردد على ألسنة الناس المثل الشعبي الذي يقول (مثل أكلات المسحر) لمن يضع في طبقه عدة أنواع من الطعام دفعة واحدة. وأصبح الناس اليوم يجودون بالمال بدل الطعام٬ فهو الأفضل.
أما الجولة الثالثة للمسحر فكانت أيام العيد لجمع العيديات من الناس. وترافقه في هذه الجولات طبلته التي هي بمثابة هويته الخاصة.
وكان المسحر يتعرض لمشاكسات الأطفال كثيراً٬ خاصة في جولته المسائية لجمع الأطعمة. فكانوا يلتفون حوله أو يلحقون به وهم يصحيون: ( أبو طبلة مرته (زوجته) حبلة… شو جابت؟ ما جابت شي… جابت جردون بيمشي!) وقد يتقبل المسحر هذه المشاكسات برحابة صدر أو يصيح بهم ويطردهم.
وقد استغنى بعضهم عن هذه الجولة للتخلص من تلك المشاكسات. يترحم بعض المسحرين اليوم على أيام زمان لأن فيها خير وبركة٬ وكانت الأعطيات كثيرة ٬ بينما يقول البعض الآخر: لا تزال الدنيا بخير.
وعلى الرغم من تدهور عملية التسحير من الناحية الفنية، إلا أن المعروف عن المسحر أو المسحراتى أنه منشدُ مجد توارث تقاليد الإنشاد٬ وحفظ نصوص أغانيه عمن سلف٬ ويتضمن إنشاد المسحراتى مقاطع غنائية متبقية من القصص الغنائى القديم ومثل.
كما يتضمن إنشاد المسحراتى منظومات التوحيش التى يؤديها فى الأيام العشرة الأخير من الشهر، وإنشاد المسحراتى (وخاصة مقاطعه القصيرة المنظومة التى مايزال يستخدمها لإيقاظ الناس) متميز فى طريقة الأداء التى ارتبطت فى الوقت نفسه بالتوقيع على طبل البازة بإيقاع متميز أيضاً يعرفه الناس ويستيقظون عليه.
وقد كان للإنشاد الدينى القدر الوافر فى شهر رمضان ٬ حيث كان يؤدى فى مسيرة جماعات الطرق الصوفية وجماعات من أرباب الحرف المختلفة وذلك أثناء موكب الرؤية وينشدون مقاطع قصيرة تبدأ بـ “لا إله إلا الله محمد رسول الله” على دقات الطبول والصاجات.
وكان يتخلل إنشاد المسحر أغان طويلة فى المديح النبوى٬ وأخيراً إنشاد التسابيح والابتهالات فى المنارات وقت السحر فى شهر رمضان٬ كما كان ينشد ما يُعرف بالتذكير وهو نوع من الأشعار العامية ينشدها المؤذنون فى المنارات لتذكرة الناس بوقت سحورهم، ومنها التذكير الأول والتذكير الثانى والثالث٬ ويأتى كل تذكير فى المعانى المناسبة لكل توقيت.
يتقاسم المسحراتيون الشوارع خشية المزاحمة والمنافسة و”المضاربة “فترى مجموعة هنا في هذا الشارع وتكون مؤلفة من أبنائه٬ ومجموعة أخرى هناك في الشارع المقابل مكّونة من أبناء الحي نفسه.
وما يسلّي أكثر هو التقاء فرقتين من المسحراتيين في أحد الشوارع الجامعة بينهم فتندلع شرارات المنافسة بينهم ويشحذون قريحتهم لاستخراج العبارات الجميلة وكل ذلك في سبيل الفوز بقلوب الصائمين ونقودهم٬ لكن هذه الصورة قد تنقلب إلى ما هو أسوأ عندما تكون المنافسة عمياء بين فرق المسحراتيين٬ حيث تقع في بعض المرات مشاحنات ومضاربات بينها تتسبب ببعض الإصابات المؤسفة.
وهناك شبان مسحراتيون يتقنون “فّن الإيقاظ” وإحياء شهر رمضان٬ بينما هناك آخرون لا يفكرون إلا فيما قد يدره عليهم من نقود من الناس٬ وهذه الفئة تكون عادة من العاطلين من العمل وينتظرون شهر رمضان للتكسب والاسترزاق من “صناعة “المسحراتي٬ ولذلك فهم لا يصرفون من جيوبهم شيئاً فثيابهم هي وقد اعتادوا على ارتدائها في أيامهم العادية٬ بينما المسحراتي الأصلي تراه لابساً ثياباً خاصة به تشبه ثياب الفولكلور والزّي البلدي الشائع في كل بلد.
ففي لبنان يرتدي عباءة وسترة رقيقة القماش ويعتمر طربوشاً مناسبا لرأسه.
ودرجت طريقة جديدة في لبنان لدعوة الناس إلى السحور٬ إذ تمّر سيّارة تضع على سقفها مكبّرات الصوت وتصدح منها الأناشيد الدينية والإسلامية وكأّن فرقة موسيقية بكاملها تعبر الطريق على مهل٬ وتتخّذ من بعض الأماكن محطات مؤقتة للوقوف ثّم تكمل سيرها حتّى تنتهي من المنطقة المكلّفة بها.
بدأت مهنة المسحراتي أيام الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي أصدر أمراً بأن ينام الناس مبكرين بعد صلاة التراويح وكان جنود الحاكم يمرون على البيوت يدقون الأبواب ليوقظوا النائمين للسحور٬ أما أول مسحراتي فعلي في مصر فكان «عتبة بن اسحق» والي مصر أيام الفتح الإسلامي وكان يخرج بنفسه في مدينة الفسطاط لتسحير الناس وهو يردد «يا عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة».
وإن كان «السحار» ظهر بسرعة في المجتمع الإسلامي فإن «التسحير» لم يصبح حرفة إلا في بغداد زمن الدولة العباسية حيث ابتكر البغداديون فن الحجازي وفن «القومة» وهما من فنون الأدب الشعبي والقومة بالتحديد كان مختصاً بالغناء في سحور رمضان وإن كان التاريخ لم يحفظ لنا منه إلا نماذج قليلة معظمها منسوب لصفي الدين الحلي وموضوعها التسبيح والابتهال٬ وكان سحار بغداد يستعين بمختلف الآلات الموسيقية في عمله٬ كما اختص بعض السحارين بمنزل الخليفة وأهل بيته وفي زمن الملك «الناصر» ظهر في مصر أول سحار محترف وهو «ابن نقظة» الذي اختص بتسحير الملك الناصر ثم خلفه ابنه في مهمته وحتى عهد قريب كان المؤذن في الريف يصعد المئذنة لتنبيه الناس إلى موعد السحور.
بالإضافة إلى المسحراتي التقليدي الذي يقرع «البازة» ـ وهي عبارة عن طبلة صغيرة ـ بقطعة من الجلد٬ مع نداء منغم على سكان الحي أو الشارع وذكر ألقابهم وأسماء أولادهم بكثير من المبالغة والمجاملة أملا في مكافأة يحصل عليها مع أول أيام عيد الفطر المبارك.
صحيح أن الأحوال تبدلت واختفى المسحراتي في كثير من الأحياء إلا أن بعض المناطق الشعبية والريفية ما زالت تحتفظ بمسحراتي يورث المهنة لأبنائه٬ وبعد أن كانت مكافأة المسحراتي عبارة عن «كعك العيد» أضيفت إليها النقود أيضاً.
ومهنة المسحراتي اتخذت بعداً فنياً على يد الشاعر فؤاد حداد والموسيقار سيد مكاوي وفي عام 1964 انطلق مسحراتي الإذاعة وانتظره الساهرون بعد أن اعتادوا سماعه ومع انتشار التلفزيون أبدع «مكاوي» في مزج فن التسحير بالوعظ والإنشاد في حب الوطن وأضاف «حداد» بعداً سياسياً اجتماعياً إلى «التسحير» حينما قال «وكل حتة من بلدي حتة من كبدي.. حتة من موال.. وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال».