إذا سُئلت من هو صاحب الفضل في ميلاد المنهج العلمي، كيف سيكون ردك؟ إسحاق نيوتن، من المحتمل؟ جاليليو؟ أرسطو؟
العديد من دارسي تاريخ العلم سيكون ردهم “روجر بيكون” العالِم والراهب الإنجليزي، رائد القرن الثالث عشر في مجال البصريات. يصف هذا العالم (بتفاصيل مذهلة) الملاحظات المتكررة، الفرضيات والتجارب في كتاباته، كما أنه يوضح حاجة أعماله إلى الخضوع للتحقيق.
لكن ارجعْ بالتاريخ إلى الوراء قليلًا ستكتشف شيئًا قد يفاجئك: نشأة المنهج العلمي تعود إلى العالَم الإسلامي وليس إلى العالَم الغربي؛ فقبل حوالي ٢٥٠ سنة من شرح “روجر بيكون” لأهمية تأكيد التجارب لاكتشافاته، كان هناك عالم عربي يُدعى “ابن الهيثم” يقول بنفس الشيء تمامًا.
ما نعرفه هو القليل عن حياة “ابن الهيثم” ولكن يعتقد المؤرخون أنه ولد في عام ٩٦٥ ميلاديًا، خلال فترة زمنية تُعرف بالعصر الذهبي للعلوم العربية، كان أبوه موظفًا حكوميًا لذا تلقى الشاب – ابن الهيثم – تعليمًا جيدًا؛ والذي زرع فيه بذرة الشغف بالعلم، وكان أيضًا مسلمًا تقيًا، مؤمنًا بأن السؤال الدائم عن حقيقة العالَم الطبيعي يجعله يتقرب إلى اللّه.
في بدايات القرن الحادي عشر انتقل ابن الهيثم إلى القاهرة. وهناك انتهى من أكثر أعماله تأثيرًا. كانت الفكرة الشائعة في ذلك الوقت هي أننا نرى ما تضيئه لنا أعيننا حيث كانت هذه الفكرة مدعومة من بعض كبار المفكرين مثل إقليدس وبطليموس، ونظرية الانبعاث هي النظرية القائلة بأن الرؤية تتم بواسطة أشعة الضوء المنبعثة من أعيننا مثل – المصابيح اليدوية – ولكن هذا لم يكن مقنعًا لابن الهيثم. فتساءل متعجبًا: إذا كان الضوء يخرج من أعيننا فلماذا من المؤلم النظر إلى الشمس؟! وهذا الاستنتاج البسيط هو ما دفعه للبحث في خصائص وسلوك الضوء (علم البصريات).
في عام ١٠١١ م، وُضِع ابن الهيثم تحت الإقامة الجبرية بمنزله بأمرٍ من الخليفة القوي بالقاهرة، فأصبحت العزلة هي ما يحتاجه تمامًا لاكتشاف طبيعة الضوء.
في العقد التالي أثبت ابن الهيثم أن الضوء ينتشر فقط في خط مستقيم وشرح كيفية عمل المرآة وناقش في إمكانية انكسار الضوء عبر مروره بأوساط مختلفة كالماء على سبيل المثال.
لم يكتفِ ابن الهيثم بتفسير هذه النظريات لنفسه فقط، ولكنه أراد أن يُريَ الآخرين ما أنجزه.
وقد تجلَّت سنوات العمل في عزلة في كتابه (كتاب المناظر)، والتي فسرت العديد من تجاربه وساهمت في بلورة أفكاره. فأي قارئ لكتابه سيجد تعليمات لكيفية إجراء كل تجربة قام بها ابن الهيثم.
قال جيم الخليلي – أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة سري -: “كانت رسالته: لا تأخذوا كلماتي كما هي ولكن تأكدوا بأنفسكم”.
وأضاف: “هذه هي اللحظة – بالنسبة لي – التي تم استدعاء العلم فيها للوجود، وأصبحت قاعدة في حد ذاتها”.
بعيدًا عن كونه أول من استخدم المنهج العلمي، كان ابن الهيثم شكوكيًا ومفكرًا نقديًا.
وقد كَتب يقول: “والواجب على الناظر في كُتب العلوم، إذا كان غرضه معرفة الحقائق، أن يجعل نفسه خصمًا لكل ما ينظر فيه، ويجيل فكره في متنه وجميع حواشيه، ويخصمه من جميع جهاته ونواحيه، يتهم أيضًا نفسه عند خصامه فلا يتحامل عليه ولا يتسمَّح فيه. فإنه إذا سلك هذه الطريقة انكشفت له الحقائق، وظهر ما عساه يقع في كلام من تقدمه من التقصير والشبه”.
هذه هي طبيعة المسيرة العلمية أن تتقدم إلى الأمام، ببطء ولكن بثبات. وعلى هذا المنوال، فإن المنهج العلمي المُوَجِه لهذه المسيرة لم يكن وليد لحظة مفاجئة، ولكن تم التعديل عليه ببطء وتراكَم على مدار الأجيال، حتى تبدَّت آلة الاكتشافات التي نستخدمها الآن. فقد كان ابن الهيثم مِن أول مَن وضع حجر الأساس لها. وبعد مئات السنين، قام العديد من كبار المفكرين بالبناء عليه حتى أصبح عملًا متكاملًا.