في جانب من الشارع العريض الذي يطل عليه بيت العمدة أقيم سرادق كبير .. جُهزَ لتناول إفطار الصائمين .. مغرب الليلة الكبيرة .. ليلة السابع والعشرين من رمضان.
وحول السرادق وقف رجال البلدة وبعض شباب العائلة من أبناء الحاج يراقبون العمال أثناء عملهم في تجهيز الذبائح التي تصدق بها هذا الرجل الكريم .. تكريما لليلة المباركة .. في البيت القديم القابع في وسط البلدة اجتمع أبناء الرجل وأحفاده وأبناء أحفاده.
ومن فوق سطح البيت كنت أتابع بعين الصبي ما يدور حولي .. أرقب بشغف هذا المشهد الفريد والجديد .. بذاكرتي أسجل ما يحدث .. وقد أصبحت قادر على الإدراك الجيد وعلى الصيام.
مازلت أتذكر عطف جدي علي وحبه رغم خشية الناس منه .. للرجل مهابة لا تخفى .. فضلا عن طيبته وكرمه.
في هذا اليوم أتذكر أنني تناولت طعامي مع مربيتي التي ترعاني وسط الزحام .. تناولت ليلتها طعام الإفطار فوق سطح المنزل .. بعيدا عن ضوضاء الزائرين والضيوف.
بمجرد اداء الحاضرين لصلاة العشاء .. بدأت فقرات الحفل بقراءة آيات الذكر الحكيم من قارئ قدير .. وأثناءها كنت أنظر إلي السماء وأتأملها فأقشعر بدني من هول ما رأيت .. ارتعدت .. فقد كانت هناك طاقة مستديرة .. تشبه القمر في استدارته وتفوقه حجما وسعة .. وداخل هذه الطاقة ..كان هناك وجه مستدير وملتحي ومنير .. يردد الآيات .. وكأن صوت القارئ يصدح في السماء والأرض معا وينير السماء.
وتساءلت .. كيف صعد هذا الرجل للسماء .. وعجزت عن الإجابة .. لجأت لمربيتي .. سألتها .. نظرت المربية إلى السماء .. وتسألت : أين هو؟ لا أري شيء .. السماء صافية وليس هناك رجال يمكنها أن تصعد إلي السماء.
حينها ..أصابني الخوف الشديد .. فأنا أري ما لا تري .. ورغم ذلك لا أعلم ما السبب الذي جعلني بتلقائية أرفع يدي بالدعاء والتضرع لله .. بكلمات ألهمني بها الله …. بأدعية .. عرفت عنها .. بعد عدة سنوات .. وقد حفرت بذاكرتي.
بتلقائية أردت الفرار من هذا الموقف المرعب .. فنزلت بسرعة .. وأنا أقفز الدرج مهرولا إلي حضن أمي .. كنت خائف .. أتساءل وأنا أصيح .. كيف صعد الشيخ إلي السماء؟ .. أنه الآن يقرأ الآيات من السماء.
أصيبت أمي بالدهشة .. ماذا أصاب الصبي؟.. هي لم تشاهد ما رأيت؟ ربطت على صدري .. وطلبت أن أحكي ما حدث بهدوء .. حتى تعرف سر هذا الخوف الذي انتابني .. أقشعر جسد أمي مما حكيت .. واصطحبتني حيث اجتمع الأهل .. وطلبت أن أكرر ما رأيت .. لعل ما شهدت هي طاقة القدر .. ويصعد معي الحاضرين للرؤية.
ولكنهم يعجزوا عن رؤية ما أري .. كنت أري طاقة مستديرة منيرة في كبد السماء .. أخذت أشير لهم اتجاها .. كنت أشاهد الشيخ يقرأ داخل هذه الطاقة المنيرة .. فربطت أمي على كتفي .. واصطحبتني بهدوء إلي مجلسها .. وهي تقول للحاضرين : لعلها ساعة إجابة للدعاء .. فتعالوا معا ندعو الله.
أتذكر وقع كلامي على الحاضرين .. فكان هناك من يقول لعل الله قد اختار هذا الصبي لنقاء سريرته ليكشف له هذه الليلة ويصطفيه من بين الحاضرين .. وآخر يقول لعل الله جعله سببا في تنبيه الحاضرين للدعاء والتقرب من الله ..هكذا قالت بعض الحاضرات.
مرت الساعات سريعا وانتهت الليلة .. وعدنا إلي منزلنا .. ومرت الأيام والسنين والرؤية عالقة بقلبي وذهني .. بدأت تتجلي الحقائق أمامي .. أستوعب ما رأيت .. كلما سمعت العلماء تتحدث عن فضل هذه الليلة .. فأقدر قيمة ما شهدت فيها كلما أقبل شهر رمضان .. أتذكر أحداثها المحفورة في أعماقي .. أتذكر الفقراء .. وكرم الشهر الفضيل .. وأذكر أمي بما حدث ..ولكنها بدأت تنسي التفاصيل .. وإن كانت لا تنكرها.
وبطبيعتها القريبة من الله .. كانت ترد علي قائلة : أعتبر ما شهدت .. مجرد رؤية في المنام وتضيف قائلة: لا تضع آمالك في الجنة على هذه الرؤية .. ثم تستطرد قائلة .. نعم أتذكر هذا اليوم ولكنك نمت فيه كثيرا قبل صعودك لسطوح منزل جدك .. ومن المرجح أن تكون شاهدت ذلك في منامك.