بعد أكثر من 15 عاما من السيطرة الكاملة على السياسة التركية، انحسر موقف أردوغان إلى حد تهديد مكانته ولو بصورة جزئية، خلال الانتخابات التى من المقرر أن تجرى غداً.
وبسبب شهوته للسلطة، والوضع الاقتصادى الصعب، فمن المؤكد أن يدفع أردوغان ثمنا باهظا نتيجة التزامه الصارم بمبادئه الإيديولوجية، التى تسببت فى أخطاء جسيمة، وتحت عنوان “تحدى أردوغان الحاسم: حتى لو فاز فى الانتخابات، فإن نفوذه آخذ فى الانحدار” هكذا استهل موقع “واللا” الإسرائيلى تقرير له حول تضاؤل نفوذ أردوغان، وضعف شعبيته فى البلاد.
السلطة المطلقة
واستشهد الصحفى الإسرائيلى رونين دنجور، بمقولة شهيرة للمؤرخ البريطانى اللورد أكتون يقول فيها “من خصائص السلطة أن تميل إلى الفساد، لذلك فإن السلطة المطلقة تفسد على الإطلاق”، وهو ما يبدو جليًا مع مرور الوقت فى سلوك أردوغان، حيث تزداد العلاقة بين السلطة والفساد فى سياسته، فهو رجل حاد ومتطور وجذاب، لكن سيطرته المطلقة على السياسة التركية تقوضت فى السنوات الأخيرة إلى درجة تهديد موقفه.
يقول دنجور إن أردوغان بنى نفسه منذ بداية مسيرته على نفس المبادئ: صورة شخص مشهور، واثق من نفسه، لديه حضور، ولغته بسيطة، ولاعب ومؤيد لكرة القدم، ومتدين، ومحب للدين الإسلامى، ولديه بصيرة، وحكمة، ومن هذه الشخصية كانت بدايته عندما انتخب عمدة اسطنبول بشكل غير متوقع فى عام 1994 وتسبب فى تغيير كبير فى النقل والبنية التحتية، لكن هذه الشخصية تغيرت بعض الشىء بعد عام 1999 حيث إنه سجن لمدة 4 أشهر بعدما قرأ قصيدة إسلامية تحض على التطرف خلال خطاب جماهيرى، قال فيها “مساجدنا ثكناتنا.. قبابنا خوذاتنا.. مآذننا حرابنا.. والمصلون جنودنا.. هذا الجيش المقدس يحرس ديننا”.
ديكتاتور صاعد
حبس أردوغان كان بمثابة تجربة تكوينية لأولئك الذين أعلنوا فى ذلك الوقت أنه “خادم للشريعة”، فبعد إطلاق سراحه، شق طريقه بحذر وحزم، لكنه حدد أعداءه وهاجمهم بمجرد الصعود على رأس السلطة عام 2003، وشكل مع رفاقه حزب العدالة والتنمية (AKP)، الذى أخفى نهجه الإسلامى، وحمل راية المساواة الاقتصادية والتقدم الاجتماعى، وهو ما أهله فى الفوز الانتخابى فى عام 2002 كأول انتصار فى سلسلة من الانتصارات السياسية.
سار الزعيم التركى على مبادئ الإخوان المسلمين محققًا تقدم بطىء وحازم، من خلال الاعتماد على الطبقة الدنيا المضطهدة، فضلا عن إدخال المحتوى الدينى فى النظام التعليمى، والاستيلاء على وسائل الإعلام، والنضال ضد النخبة العلمانية والجيش.
حافلة الديمقراطية
استطاع أردوغان أن يستغل معنى الديمقراطية ليوظفها لأغراضه السياسية خلال فترات حكمه، وهو ما اتضح خطابه عام 1999 حينما قال “إن الديمقراطية تشبه الحافلة عندما تصل إلى الوجهة التى تخرج منها”، وفى العقد الأول من حكمه، بدأ يغير الإطار الديمقراطى، ومنح تنازلات ثقافية للأكراد وشرع فى عملية مصالحة مع حزب العمال الكردستانى، وتفاوض على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى.
وفى الحقيقة فإن تركيا لم تكن أبدا ديمقراطية غربية ليبرالية، فعلى مدى عقود، استطاع أردوغان أن يحد من سلطة الجيش، وتدخل فى صلاحيات الجيش، وانتهج سياسة التبادل القسرى فى السياسة والحكم، وأدرك أن الجيش أكبر تهديد لمكانته، وبدلا من السعى لتأسيس الجيش بجنود موالية -مثل الحرس الثورى الإيرانى- استخدم متطلبات الاتحاد الأوروبى كذريعة لإضعاف الجيش النظامى، بشكل تدريجى، من خلال استبدال جميع صفوفه، كما عمل على فرض قيود شديدة على الأقلية الكردية وقيد حرية التعبير فى البلاد.
قمع المعارضة
ومع ذلك، لم يكن هناك تغير كبير فى السنوات الأخيرة، ربما بسبب أن تقديرات الحافلة الديمقراطية تقترب من المحطة النهائية بداية من قمع المظاهرات التى خرجت فى ميدان تقسيم فى صيف 2013 احتجاجا على فساد وزراء مقربين من حزب العدالة والتنمية والتى قمعها أردوغان بالغاز المسيل للدموع عام 2013، مرورًا بملاحقة الأكراد فى صيف عام 2015، واندلاع عمليات القتل ضد حزب العمال الكردستانى PKK، حتى الاعتقالات الجماعية بعد محاولة انقلاب فاشلة فى صيف عام 2016 ، والدفع من أجل استفتاء لتغيير النظام فى مايو 2017.
خلال العامين الماضيين انتهج اردوغان سياسة اعتقال المعارضة، بداية من ملاحقة انصار المعارض التركى فتح الله جولن، حتى اعتقال صلاح الدين دميرطاش المنافس الرئيسى له عام 2016 فى الانتخابات المقبلة.
أتاتورك الجديد
فى الأشهر والسنوات الأخيرة، تحولت العجلة وأصبح أردوغان يقف بجانب قطر، وحماس فى غزة، فى عزلة عن العالم العربى، لكنه يستغل تأييده لحماس في عملية الانتخابات، فضلا عن قضية مافى مرمرة فى مايو 2010 ، والتى تسببت فى ازدياد المشاعر المعادية لإسرائيل فى تركيا، حيث إنه يستغل هذا النهج الشعوبى فى الحملة الانتخابية الحالية من قبل المرشحين المختلفين.
ومن عجيب المفارقات هنا أن أردوغان ومنافسه الأوروبى، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ينتقدان الآن بمرارة تدفق اللاجئين إلى بلدانهم، إذ يكسر 3.5 مليون لاجئ سورى التوازن فى جنوب تركيا وهم هدف للغضب والاستياء اللذين قد يؤثران على التصويت فى الانتخابا ت، فحتى لو ضاع طموح أردوغان فى أن يصبح سلطانًا إقليميًا، فإنه لا يزال يأمل أن يكون “الأب الجديد للأتراك” (أتاتورك).
إمبراطورية أردوغان
يصادف عام 2023 مائة سنة على تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك، الذى فرض العلمانية على المجتمع التقليدى، والذى أعقبه عهد أردوغان الذى اتجه لبناء العشرات من مشاريع البنية التحتية الضخمة فى جميع أنحاء تركيا، والتى تكشف عن حداثته، فهو مؤسس المطار العملاق الجديد فى اسطنبول الذى أطلق عليه اسمه، فضلا عن بناء نفق اسطنبول بين مرمرة والبحر الأسود، والطرق السريعة والمشاريع الاقتصادية الأخرى.
ويمكن القول إن القصر الأبيض هو رمز قوة تركيا الاقتصادية وعجزها أيضا، فأردوغان هو أول رئيس تركى يغادر قصر أتاتورك ليقيم فى القصر الأبيض الذى يضم ألف غرفة فى أنقرة، وكان قد دشن القصر، وافتتحه فى ذكرى تأسيس الجمهورية التركية، وكان شاهدًا على النمو الاقتصادى وحالة الثراء التى تشهدها تركيا فى عصر أردوغان الذى قفز باقتصاد تركيا إلى الأمام، لكن الآن المال الأجنبى يهرب، وشركات البناء فى أنطاليا تواجه وقتا عصيبا، ويقول منتقدو أردوغان إنه يجب تغيير الصناعة بحيث تعتمد على التكنولوجيا الحديثة.
الأيدولوجية الأردوغانية
وفى هذه الأثناء، يهتم المواطنون بشكل أساسى بالحالة الاقتصادية والتضخم، وانخفاض قيمة الليرة التركية، ونظرًا لخلفية أردوغان الإسلامية رفض رفع سعر الفائدة التى من شأنها أن تحد من سقوط العملة، ونهج أردوغان هذا يهدد بشكل عام أمن المستثمرين الأجانب والمحليين، خصوصا في ضوء الإعلان بأنه سيزيد من مشاركته فى القرارات الاقتصادية في المستقبل، قائلا إن ارتفاع سعر الليرة، أخطر شىء على البلاد متهما جهات عالمية بإضعاف الليرة التركية.
وفى ضوء الحملة الرئاسية والبرلمانية الحالية تجد أردوغان يرد على خصومه، فى ضوء الانتقادات الموجه إليه، وكما توقع الخبراء قبل شهر أعلن أردوغان أنه سيفكر فى إزالة حالة الطوارئ فى البلاد بعد الانتخابات، فضلا عن أن الجيش التركى شن مؤخرا عملية جديدة فى شمال العراق ضد حزب العمال الكردستانى، ويواصل التحريض ضد السكان الأكراد من أجل جلب الناخبين الوطنيين.
السقوط فى الهاوية
وكشف الاستطلاع الذى أجرى فى ألمانيا بين المهاجرين الأتراك قلقًا واسعًا من سياسة أردوغان، ووفقا لنتائج الاستطلاع، كان هناك انخفاض فى نحو 11 % من الأصوات الداعمة لأردوغان مقارنة مع الانتخابات السابقة، فحتى لو فاز أردوغان بالجولة الثانية فى الانتخابات الرئاسية، فسوف يواجه تحديات صعبة أهمها: البرلمان المنقسم، والاقتصاد الذى يواجه أزمة حادة، والتضخم، وهروب رأس المال، والمعارضة الشعبية الواسعة لحكمه، وقد يدفع أردوغان ثمناً باهظاً للالتزام العنيد بمبادئه الأيديولوجية، بسبب شهوته للسلطة، التى أدت إلى أخطاء خطيرة، وربما ينزل من الحافلة فى وقت قريب جدا.