إلى جانب الرواد الكبار محمد عبد الوهاب والسنباطى والقصبجى وزكريا أحمد يقف فريد الأطرش فى منزلة حائرة بين الريادة والتقليد، لكن الأكيد أنه حالة خاصة فى تاريخ الموسيقى العربية تحتل منها موقعا نافرا عن السياق، إذا جاز لنا التعبير، وليس النفور هنا بمعناه السلبى، إنما نقصد به الفرادة والشرود عن السرب فى كثير من الأحيان كجدول شبّ عن الطوق، وأصبح نهرا بحد ذاته نبتت على ضفافه الأشجار.
ذلك هو الموسيقار فريد الأطرش وليد الحضارة الموسيقية العربية الشرقية، وابن ثقافتها الفنية ونهضتها التى عرفها الوطن العربى بعد التحول الموسيقى الكبير الذى أحدثه سيد درويش فى مسيرة الموسيقى العربية وانتقالها إلى آفاق التعبير الرحبة. مع ذلك فإن فريد الأطرش من الفنانين الذين أثاروا جدلا فى الأوساط النقدية، إذ أخرجه بعض النقاد من لائحة الرواد على اعتبار أن الريادة تقتضى إحداث تغيير فى الفكر الموسيقى أو تأسيس لتقليد موسيقى جديد أو إبداع شكل موسيقى لم يأتِ به الأوائل ممن سبقوه، لكنهم فعلوا ذلك من دون أن يضعوه فى مكانته التى يستحقها من وجهة نظرنا.
كلاسيكيات الملحن المجدد
قدَّم فريد الأطرش الألحان الكلاسيكية الشرقية الطويلة التى طبعت الحقبة الموسيقية العربية الثرية جدا فى الأربعينيات والخمسينيات والنصف الأول من الستينيات كالربيع «، و »أول همسة «، و »حكاية غرامى «، و »نجوم الليل «، و »حبيب العمر ، و عدت يا يوم مولدى ، و »بقى عايز تنسانى « (غنتها أيضا سعاد محمد)، و »ختم الصبر « التى رشحها الناقد سعد آغا القلعة ضمن أهم ١٠٠ أغنية عربية.
هذه الأعمال الشامخة التى وقف فيها فريد الأطرش جنبا إلى جنب موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب والعبقرى رياض السنباطى نالت جماهيرية طاغية، حيث اعتبر الأستاذ أحمد شفيق أبو عوف، رئيس اللجنة الموسيقية العليا، أن فريد الأطرش قد أقدم على المزج الغريب والبديع بين إيقاع الفالس والمصمودى فى أغنية الربيع فى سابقة فنية لم يسبقه إليها أحد .
هو أول من قدَّم الأوبريت المكتملة العناصر فى الأعمال السينمائية، وقد اعتبر النقاد أوبريت »انتصار الشباب « الشكل الأمثل لمفهوم الأوبريت فى تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة، كذلك فإن فريد الأطرش كان أول من صاغ المقدمات الموسيقية الشامخة فى أعماله الكلاسيكية، كما فى أغنية بنادى عليك التى طوع فيها الموسيقى الشرقية لأداء الأوركسترا السيمفونى.
فى هذا العمل الكبير نجح فريد الأطرش فى إبراز معنى المناداة المناجاة) إلى حد بعيد من خلال الغناء الفالت المسيطر بشكل عام على الكوبليهات التى سرت نهاياتهاعلى إيقاع »الفالس «، قبل أن تسلم زمامها لتلك الآهات الندائية التى تفصل بينها، لتكثف المعنى الذى على أساسه بنى الشاعر أنشودته.
يدل هذا العمل الفذ على فهم عميق لروح الموسيقى الشرقية وإمكانياتها الهائلة على اختراق وتوظيف أشكال الموسيقى الكلاسيكية الغربية فى بحر مقاماتها الواسع والعميق.
عمل الاطرش بامتياز يجبرنا على وضعه خارج التصنيف التقليدى، وإن أُخذ عليه ذلك الفصل الحاد بين المقدمة والأغنية.
كذلك فعل فى رائعته الثانية نجوم الليل، فقد بدا فيها فريد الأطرش موسيقيا كلاسيكيا من طراز رفيع حلق فى ذرى الموسيقى التعبيرية للارتقاء بالشكل التقليدى للأغنية الشرقية، ومنحها أبعادا إنسانية عابرة للجغرافيا، .
فغدت نجوم الليل كنجوم الليل يستضىء بها التراث الإنسانى.
مقدمة خيالية تصويرية كأنها من عزف السماء ترويها الأوركسترا بكامل عدتها وبهائها، حوارية موسيقية بديعة بين الوتريات وآلات النفخ وبين الأوركسترا والبيانو وبين الآلات الغربية والآلات الشرقية الوترية والإيقاعية وبينها وبين آلة القانون.
مقدمة مهيبة بدأت بذلك التآلف البديع بين نهاوند الوتريات وكورد الآلات الهوائية أو النفخ، ثم لامست مقامات أخرى كالعجم والحجاز، لتعود وترسو عند شاطئ الكورد، العمود الفقرى لهذا العمل، تحكى أحوال النفس الشاكية من الظلم تستكين حينا وتتمرد أحيانا، تهدأ نيرانها مرة وتضطرم أخرى.
تعبر عن نوع من التساؤل الاستنكارى للظلم والقسوة موضوع الأغنية، بدا فيها فريد الأطرش متأثرا بالكلاسيكيات الأوروبية، ا لإ سبا نية خاصة، من خلال أسلوب توظيفه الدرامى لمقام الكورد واستلهام روح الفلامنكو من خلال أحداث الإحساس بذلك الرجع البعيد للصوت الإيقاعى السريع لآلة الكاستانييت الشهيرة، لكن بصوت الصنوج فى آلة الرق الإيقاعية، فى محاولة لتجنب التغريب الكلى، حتى إذا انتهى من رسم هذه اللوحة التعبيرية يترك ريشته لتستريح فى حضن الحجاز، المقام الشرقى المناسب للتعبير عن الدموع واللوعة، الذى به يبدأ الغناء، حيث يجول فريد بين الشهناز والصَّبا والراست والبياتى، ليعود أخيرا وينهى الأغنية بمقام الكورد لكن بطعم عربى شرقى المذاق.
مؤسسة لانصهار الثقافات
ونحن إذ نمتنع عن الدخول فى لعبة التصنيف هذه نؤكد أن فريد الأطرش هو لا شك صاحب مدرسة شديدة الخصوصية والتفرد لا تشبه أحدا سواه، مدرسة تلحينية انطلقت من دوائر ثلاث، دائرة محلية شهدت أولى خطواته الفنية فى بيئته الشامية، ودائرة إقليمية عربية شرقية عرفت نضجه الفنى وتألقه فى بيئته القاهرية، واستلهمت فن الرواد الأوائل ونسجت على منوالهم، ثم دائرة عالمية استلهمت موسيقى الشعوب الأخرى وإيقاعاتها ك »السامبا « و »الرومبا « و »التانغو « كذلك بعض ملامح الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، لا على سبيل المحاكاة الفجة، بل من خلال إخضاعها لروح الشرق وهضمها فى بوتقته باقتدار، نظرا لقدراته الفنية الفائقة وموهبته الحقيقية التى استطاعت أن تبتلع هذه المؤثرات والروافد وتصهرها فى موقد خيالها الرحب، لتخرج علينا بأسلوب تلحينى مميز ذى ملامح محددة وبصمات خاصة لا يخطئها المتذوق للموسيقى.
فريد الأطرش إذن هو النموذج الأمثل لهذا الانصهار بين الثقافات الموسيقية المتعددة والمتنوعة.
فريد الأطرش يمثلِّ فى ثقافتنا الموسيقية حالة فنية أضافت وأثرت واستطاعت أن تخترق حواجز المحلية للانطلاق إلى العالمية من خلال مجموعة من مقطوعاته الرائعة التى لفتت انتباه الموسيقيين الغربيين، منها قصيدة يا زهرة فى خيالى ، التى سحرت الألباب وجابت شهرتها الآفاق، وتردد صداها فى أنحاء العالم، وعزفتها الأوركسترات العالمية فى أكثر من مكان، ما لم يحدث لأحد من معاصريه من الكبار أو الذين سبقوه .
وكان من أوائل الملحنين بعد محمد عبد الوهاب الذين ألفَّوا المقطوعات الموسيقية المحضة التى ذاعت شهرتها عربيا وعالميا، واهتموا بالمقدمات الموسيقية التى عزفتها الأوركسترا بكامل عددها وآلاتها، كما اهتم بتوظيف الكورال بشكل بديع فى أعماله واللجوء إلى تقنية البوليفونى الغربية وتطويعها للموسيقى الشرقية بأسلوب خلاّب، كما فى ختام قصيدته الشهيرة عدت يا يوم مولدى .
ونحن إذ نؤكد أن التقدير العالمى ليس هاجسا بالنسبة إلينا ولا معيارا وحيدا، لأننا نؤمن أن »أهل مكة أدرى بشِعابها «، والذوق الغربى قد ينسجم مع ما يناسبه من موسيقى يستطيع أن يفهمها. مع ذلك لا ننكر أن هذا التكريم الغربى عززَّ مكانة فريد الأطرش محليا وعالميا، وربما يكون قد أنصفه قليلا، ورفع عنه ظلما أصابه فى وطنه على المستوى النقدى والتأريخى الذى شغلته كثيرا سيرة حياته المليئة بالأحداث الدرامية التى بلغت ذروتها فى وفاة شقيقته أسمهان، ونظرا لارتباط كثير من أعماله باللوحات الراقصة فى الأفلام السينمائية والتى وضعت خصيصا لترقص عليها سامية جمال أو تحية كاريوكا وسواهما، هذا بالإضافة إلى أن فريد الأطرش قدم إضافاته الحقيقية وأعماله الكبرى الجديرة بالتأريخ والبحث حتى منتصف الستينيات، طبعا مع بعض الاستثناءات فى حقبة النصف الثانى من الستينيات والسبعينيات التى لم يعش منها سوى 4 سنوات اقتصرت خلالها أعماله على الأغنية الشعبية الخفيفة التى لم تضف إلى تاريخه كثيرا باستثناء قصيدة عش أنت، وأغنية »على لله تعود « التى غناها الفنان وديع الصافى.
هذا الضمور على مستوى التألق الفنى لا يقتصر على فريد وحده، ذلك أن عطاءات عمالقة الفن عرفت حقبات ذهبية وأخرى خامدة مثل الأستاذ محمد عبد الوهاب. فريد الأطرش إذن مجدد، كما أن له اقتباساته التى لا تقتصر عليه وحده، بل يضاهيه فى ذلك موسيقار الأجيال والأخوان رحبانى وسواهم.
الأطرش والطقطوقة
قدَّم فريد الأطرش لقالب الطقطوقة خدمات جليلة ونوّع أسلوب تناولها وأعطاها بعدا غير تقليدى فى الكثير من ألحانه، منها على سبيل المثال الطقطوقة الرومانسية الراقية »مش كفاية «.
طقطوقة رقيقة كقطعة الدانتيلا ارتقى بها فريد الأطرش إلى مستوى الأعمال الكلاسيكية من حيث الوقار والعمق، وتلك الانسيابية المتأنية الهادئة التى يسير اللحن على خطاها على إيقاع التانغو الأثير فى أعمال فريد الأطرش. إيقاع ثابت لم يتغير، تعزفه الوتريات والأكورديون، عمل خالٍ تماما من الآلات الإيقاعية التى قد يؤدى وجودها إلى خدش هذه الانسيابية الرقراقة التى عبرت عنها الوتريات من أول اللحن إلى آخره.
الكمنجات فى هذا العمل تقوم بدور التكثيف والدفع بالمعنى إلى منتهاه، فهى تكمل ما بدأه فريد وتبوح بما لم يبح به كاللازمة »الملتاعة « التى تلت المذهب مباشرة على سبيل المثال، لذلك لا يمكننا اعتبار هذه اللوازم الامتدادية لما هو مغنى توزيعا بالمعنى المتعارف عليه، أو كيانا قائما بحد ذاته فى موازاة الميلودى بل هو توزيع بسيط يعتمد على اللوازم التى تربط بين الكوبليهات وبين الجمل الموسيقية.
ذلك أن التوزيع المعقد من شأنه أن يسهم فى تشتيت اللغة الموسيقية الراقية التى اتخذت شكل الهمس الصريح القائمة أساسا على التعبير عن نوع من الرجاء الذى يتطلب البوح المباشر والوصول إلى الهدف بأبسط الوسائل وأقصر الطرق.
وعلى الرغم من الانطباع السائد أن الحزن مسيطر بشكل عام على نتاج فريد الأطرش، غير أنه قدم مجموعة كبيرة من الأعمال التى لا تخلو من البهجة والسرور.
نتوقف بشكل خاص عند أغنيته الشهيرة جدا »جميل جمال «.
طقطوقة تنوعت مقاماتها ضمن مساحة زمنية صغيرة نسبيا (ست دقائق)، وإيقاع مقسوم يتراوح بين سريع فى اللوازم الموسيقية يتباطأ فى الكوبليهات الثلاثة التى ربط فريد الأطرش بينها بلوازم ثلاث، عزفت بنفس الطريقة والتكنيك والروح، لكن بثلاثة مقامات مختلفة صاغ منها الكوبليهات، البياتى فى الأول، والحجاز فى الثانى، والصبا فى الثالث، يعود بعد كل منها إلى مرجّع النوى أثر ليسّلم المذهب إلى الكورال.
لكن اللافت حقا فى هذا العمل البهيج هو كيفية استخدامه البديع لمقام الصّبا فى الكوبليه الأخير وإعطائه بعدا جديدا غير مألوف.
هذا المقام الحزين حدَّ النحيب، بدا فى هذه الأغنية الرشيقة، بطعم الفرح الشجى وهى الحالة التى يكون عليها العاشق فى منزلة تتأرجح فيها نفسه بين لواعج الوجد ومباهج الوصال، بينما غالبية الألحان التى ولجت عالم هذا المقام صيغت ببعده المتعارف عليه المعبر عن شدة الحزن والألم.
هنا يطوّعه فريد الأطرش باقتدار لحيوية الفرح الذى عبرّ عنه المشهد السينمائى الذى شدا فيه هذه الأغنية الجميلة.
صاغ فريد الأطرش إذن هذه الطقطوقة من ٤ مقامات مختلفة، لكنها مشتقة بعضها من بعض هى النوى أثر، ثم البياتى، ثم الحجاز، ثم الصَّبا، فى صياغة لحنية بالغة الجمال والذوق والعمق التعبيرى أسهمت لا شك فى تطوير فن الطقطوقة ودفعه فى اتجهات جديدة.
مثلث موسيقى متساوى الأضلاع
قدم فريد الأطرش خلال مسيرته الفنية عددا كبيرا جدا من الألحان المهمة التى أثارت جدلا نقديا واستحثت الدارسين على البحث والتحليل فى هذا النتاج الكبير والغزير لموسيقار شق طريق الفن بكفاح مرير وموهبة حقيقية ومعرفة موسيقية عميقة، جعلته جديرا بالمكانة التى وضعته فى القلوب من المحيط إلى الخليج كأحد أكثر الفنانين العرب جماهيرية على الإطلاق.
فريد الأطرش كان مؤسسة فنية مكتملة العناصر، مثلث موسيقى متساوى الأضلاع غناء وعزفا وتلحينا.
فريد الأطرش المطرب يمتلك مساحة صوتية كبيرة متفردة ومتوائمة مع خصوصيته كملحن، وبالتالى كان يصعب على غيره أداء بعض ألحانه التى غناها بنفسه، لا سيما تلك التى ترتكز إلى إظهار مساحته الصوتية الهائلة وقفلاته الخاصة المميزة.
صوت عملاق بإجماع الدارسين وذوى الاختصاص بغض النظر عن القماشة الصوتية التى قد يُختلف حولها بين »محب غال ومبغض ضال «.
طوَّع فريد أداءه الشامّى النشأة للغناء المصرى بشكل مذهل، وقد أدى الموال المصرى بأسلوبه الخاص الشامى الروح، فجمع إلى الرقة والحنان وسلاسة الأداء المصرى، العنفوان والقوة اللتين يتميز بهما الأسلوب الغنائى لأداء الموال فى بلاد الشام.
أما ألحانه للآخرين فكان يراعى فيها أسلوبهم الخاص وقدراتهم الصوتية فى الأداء مع منحها أسلوبا فريدا كان يتميز به هو، لذلك كان باستطاعة أى متذوق للموسيقى أن يميز أعمال فريد الأطرش من غيرها بسهولة، نظرا لوضوح بصماته وتفرد أسلوبه فى تناول المقامات الشرقية وتوظيفها بطريقة تجمع بين المدرستين الشامية والمصرية، ما يجعله صاحب اتجاه موسيقى حقيقى فى تاريخ الفن العربى المعاصر.
العود الذى نافس صاحبه
قبل فريد الأطرش كانت آلة العود، كباقى آلات التخت الشرقى، تطرب الناس، ولها مكانتها وموقعها المميز وسط التخت، لكنها لم تكن تفوق القانون مثلا من حيث مكانتها وتصدّرها أو قيادتها للتخت الشرقى، ولا من حيث شغف الناس بها، حتى ظهر عود فريد الأطرش.
هذه الآلة الشرقية الجميلة الموغلة فى القدم، والتى عرفت أسماء كبيرة من أمثال الرائد الموسيقى العظيم محمد القصبجى والمعلم الكبير الشريف محيى الدين حيدر وتلميذه جميل بشير والفنان صليبا القطريب وفريد غصن وغيرهم من الأعلام الذين أسهموا فى النهضة الموسيقية العربية بشكل عام وفى نهضة هذه الآلة العريقة وتطوير تقنياتها واكتشاف آفاق جديدة لقدراتها الكامنة.
غير أن ذلك ظل فى إطار النخب المهتمة بالموسيقى والدارسين والنقاد والفئات القادرة على ارتياد المسارح الخاصة.
إن الإضافة الحقيقية التى سجلها فريد الأطرش فى هذا المجال هو أنه استطاع أن يحمل هذه الآلة من الصالونات الفنية والنخبوية إلى صفوف الجماهير الشعبية العريضة.
كان عود فريد الأطرش يكاد ينافس فريد نفسه جماهيرية وعشقا.
ولم يحدث أن نالت آلة موسيقية ذاك الكم من التصفيق الذى كان ينفجر بمجرد ظهور عود فريد الأطرش على المسرح حتى قبل ظهور صاحبه، ولا نجافى الحقيقة إذا قلنا إن فريد الأطرش صاحب فضل على هذه الآلة.
قدَّمها للناس بشكل مختلف وعزز مكانتها، إذ جعلها سيدة حفلاته على المسرح، فأسهم فى تعريب الذوق الفنى لدى قطاع واسع من الشباب الذى كان يرى فى الجيتار الكهربائى آلة أثيرة فى العصر الذهبى للفرق الموسيقية الغربية كالبيتلز وغيرها.
فريد الأطرش صاحب أسلوب متفرد غير تقليدى فى العزف استطاع أن يخرج من العود إمكانيات لم تكن مكتشفة.
وسيبقى السولو الخالد فى مقدمة قصيدة »لا وعينيك « شاهدا على جدارة هذا العازف الكبير الذى منح هذه الآلة تقنيات جديدة حين عزف بالعود معزوفة أستورياس للمؤلف الموسيقى الإسبانى إزاك ألبينيز، ما أسهم فى توسيع آفاق وأبعاد هذه الآلة، وفتحها على احتمالات تفوق الخيال.
وإذا اعتبرنا أن السنباطى كان صاحب أروع ريشة وأعمق خيال وأرهف إحساس عزفا وتلحينا فى تاريخ الموسيقى العربية، فإن فريد الأطرش واحد من أهم العازفين على مستوى التكنيك عرفته هذه الآلة فى تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة.
ولتوضيح القصد من وراء استخدام »أفعال التفضيل « وهو أسلوب غير علمى فى التوصيف يجدر التوقف لحظات لتبيان الفروق الدقيقة بين بعض التوصيفات الملتبسة مثل »أروع » ،« أجمل » ،« أهم » ،« أعظم .«
ابتداء، يجوز فى تقييم العمل الفنى كسر الأطر العلمية التى تعتمد على العقل. إن »أفعل التفضيل « هنا ليس على إطلاقه أو بمعناه الحرفى، بل هو تعبير تلقائى شعورى عن الأثر الذى تتركه الدهشة فينا، وهذا جائز فى النقد الفنى عموما والموسيقى على وجه الخصوص. »
أهم أو أعظم تكنيك « يعنى مهارة فى العزف عالية المستوى عظيمة القدرات والفهم لأسرار الآلة وإمكانياتها والقدرة على العزف بحرفية منقطعة النظير، بغض النظر عن جمال العزف وتأثيره الجمالى فى النفس، أما حين نوصِّف عزف رياض السنباطى مثلا بالأجمل أو الأروع، فذلك لأن ريشة السنباطى تمتلك من الجماليات ما يجعلها تتجاوز مسألة الحرفية الاستعراضية، حينئذ يكون الانبهار نابعا من الإحساس بالجمال الخالص لا من القدرات التقنية التى تدهش الوعى ولا تتعداه إلى الشعور.
الأغنية الوطنية
كان فريد الأطرش صاحب هم عروبى، قومى، إنسانى، حاول أن يعبرِّ عنه من خلال فنه، ومن أجل هذا الهم قدم فريد الأطرش إسهامات يمكننا القول إنها أسهمت فى التقريب بين ثقافات الشعوب، أملا فى النهضة بالموسيقى العربية ومنحها بعدا إنسانيا متجاوزا للأعراق والأجناس والقوميات.
بدأها أولا بالدائرة العربية القومية، كما فى أوبريت »بساط الريح «، الذى مر من خلاله على الدول العربية كافة ليعزز فكرة الوحدة ونبذ الفرقة.
وفى مجال الأغنية الوطنية قدم أعمالا قليلة لكن مميزة، تتراوح بين الأغنية الوطنية الشعبية ذات الطابع العاطفى كأغنيتيه الناجحتين »سنة وسنتين « و »علم العروبة يا غالى «، والنشيد الحماسى الوطنى كرائعته »المارد العربى«.
يستوقفنا هذا العمل الحماسى القومى فى موضوعه، ببنائه اللحنى الذى يسير على إيقاع الخبب أو حوافر الخيل كخلفية ثابتة تعزفها الطبول بمصاحبة الآلات النحاسية التى تبدو كأنها تعلن النفير والتعبئة العامة من أول العمل إلى آخره، كأنها الخيول العربية، إذ تتقدم فى مسيرة لا يريد لها أن تتوقف حتى تحرير كامل التراب العربى من النهر إلى البحر، ليس فى تاريخ الأغنية الوطنية العربية المعاصرة عملا، اتخذ ما يشبه هذا الأسلوب الذى ربط موسيقياّ بين العروبة والخيل، هذا الربط الرمزى التقليدى فى ذاكرة الأدب العربى لم يكن تقليديا فى الذاكرة الموسيقية.
ظلمه النقاد.. وأنصفه الناس
فريد الأطرش، أحد كبار ذلك العصر الموسيقى الذهبى الذى ما زلنا نعيش على ذكراه، يحتاج بلا ريب إلى إعادة النظر فى تقييم نتاجه، حتى يتعرف عليه الجيل الجديد الذى ربما لا يحفظ من فريد سوى »لاكتب على أوراق الشجر « و »فوق غصنك يا ليمونة « و »حِبينا «، وبعض الأغانى الشعبية الأخرى التى تحظى بالرواج أكثر من غيرها.
فقد آثر بعض النقاد المرموقين الاهتمام بالمطربة الكبيرة أسمهان على حساب فريد الأطرش الملحن، وهو اهتمام مستحق، لكن يعوزه الإنصاف. فريد الأطرش قامة فنية وإنسانية عالية، قدمت للعالم موسيقى عبرّت عن القيم والأخلاق الإنسانية الرفيعة خير تعبير، ورسمت ملامح لمعاناة الإنسان فى صراعه المرير مع الحياة بحلوها ومرها، وكان نموذجا للتطابق بين الفنان والإنسان خلافا لبعض معاصريه الكبار الذين قدموا فنا شامخا، لكنه كان قناعا يخفى وجها إنسانيا آخر لا يشبهه.
ولا نقول ذلك بوصفه عيبا أو سلبية، ففى تاريخ الفنون عامة نماذج فنية وعبقريات لا علاقة لها بسيرتها أو بحقيقتها الإنسانية، وليس فى ذلك أى بأس، لأن ما يعنينا بالدرجة الأولى هو ما قدمته هذه النماذج الرائعة من خدمة جليلة للحضارة الإنسانية، لكن هذا التطابق التام بين فن فريد الأطرش وشخصيته الإنسانية كان لافتا، لندرته فى عالم المبدعين.
ولا يمكننا فعلا أن نفصل بين فريد الفنان وفريد الإنسان، بين التسامح والجود والسخاء الإنسانى الذى اشتهر به وسخائه الفنى الكبير، سواء فى غزارة أعماله أو فى تعامله الأخلاقى مع زملائه وموسيقييه الذين كانوا ينتظرون بشغف ولهفة لحظة دخولهم إلى الاستوديو للعزف على مقام فريد الأطرش.
لا يمكننا أبدا أن نفصل بين ألمه الإنسانى وألمه الفنى، بين طيبته فى الحياة وطيبته على الشاشة، بين حزنه الحقيقى وحزنه الفنى الذى لم يكن يملك إلا أن يظلل ألحانه للاربضبابه.
وهل هذا التطابق التام بين الفن والفنان الذى جسده فريد الأطرش إلا انعكاس صارخ لذلك الصدق الكبير الذى رافقه كظله فى علاقاته الفنية والإنسانية؟
هو ذلك الأمير الأطرشى الذى حمله البحر صغيرا من جبل الوطنية إلى جبل الفن، لينمو ويترعرع ويغدو أميرا كبيرا لفن عربى مشرفِّ، رسمت ملامحه هذه الثنائية الخالدة التى جمعت مصر وسوريا، سياسيا وروحيا وثقافيا.
ما أحوجنا اليوم إلى أن نغنى مع فريد الأطرش لهذا الوطن الكبير الذى ينزف فرقة وتجزئة وانقساما وفجيعة »على لله تعود بهجتنا والأفراح وتغمر دارنا البسمة والأفراح.