سيدة بملامح مصرية خالصة سوداء الشعر سمراء البشرة ربما لم تكن لتلفت نظر العامة كثيرًا في شوارع المحروسة خلال النصف الأول من القرن العشرين
فقط إذا لم تكن هي نفسها السيدة التى تحدت التاج البريطانى بعد أن هزت عرش ألمانيا.
لم تكن مواهب حكمت فهمي تقتصر على التمثيل والرقص والغناء فقط، إلا أنهما كانا أول ما فتح أمامها باب الشهرة، فالسيدة التي ولدت بعد بداية القرن العشرين بسبعة أعوام، اقتحمت عالم الفن بعد عدة سنوات عن طريق فرقة الفنان علي الكسار، والذي كان رقمًا صعبًا في عالم الكوميديا في ذلك التوقيت مع منافسه نجيب الريحاني، إلا أن التمثيل لم يكن كل ما تريد، لتنتقل بعدها للرقص في فرقة بديعة مصابني، إحدى أشهر الراقصات في تاريخ مصر، لتلقب حينها بسلطانة الغرام.
نجاح كبير حققته حكمت فهمي بموهبها الفنية المتعددة، نجاح قادها لعروض وجولات أوروبية، فكانت ملاهي الرقص تحتفي بالراقصة المصرية، التي كما كانت مواهبها طريقها إلى أوروبا، كانت أيضًا طريقها إلى مكان قد يبدو أقرب بالنسبة لها من حيث المسافة، إلا أنه كان أصعب في الوصول إليه من حيث المكانة، البلاط الملكي.
وكانت فهمى من صنف النساء الذى يحبه الملك فاروق، كما يروى الكاتب الأمريكي وليم ستادين، في كتابه بعنوان فاروق ملك مصر .. حياة لاهية وموت مأساوى، ولم تفوت هى تلك الفرصة، حيث تقربت من الملك الشاب، وتواجدت بشكل شبه دائم فى القصر، وكانت لاحقًا أحد أسباب فى سقوط تاجه، لكن سقوط تاج ملك مصر لم يكن قد حان وقته بعد، فقصة الراقصة مع السياسة كانت لازالت تكتب فيها السطور الأولى.
لم تكن علاقة فهمى بالملك فقط هى التى توطدت، بل كانت الراقصة على علاقة جيدة جدًا أيضًا بضباط جيش الاحتلال البريطانى آنذاك، والذى كان على بعد أيام من دخول معركة كبرى.
كانت الأجواء متوترة فى أوروبا حرب تلوح فى الأفق لكن الأجواء لاتزال تحتمل بعض الرقصات من حكمت فهمى وتحديدًا في ألمانيا النازية والحاضر الفوهرر نفسه، أدولف هتلر، ومن نازية ألمانيا ينتقل خصر فهمى لإيطاليا الفاشية، فلا يزال زعيمها بينيتو موسيلينى يبغى رقصة من سلطانة الغرام.
كيف وصلت الراقصة المصرية إلى الفوهرر؟
تبدأ القصة من النمسا، فتحت أنغام الموسيقى تمايل خصر حكمت فهمي، فيما جلس وسط الحضور رئيس المخابرات الألمانية، وإعجاب الأخير بالراقصة المصرية، جعله يرشحها للرقص أمام هتلر نفسه، وقد حدث، فيما شاهدها معه وزير دعايته السياسية جوزيف جوبلز، والذى أعجب بفهمى، واقترح تجنيدها للعمل لصالح الألمان.
وفي إحدى الليال في ملهى النمسا، الذى اعتادت فهمى الرقص فيه، كانت خطواتها الأولى في عالم الجاسوسية، وتحت اسم حسين جعفر، تعرف الضابط الألماني، جون أبلر على حكمت، دون أن تدرى أنه ولد من أبوين ألمانيين، ثم تبناه رجل مصري تزوج والدته، بعد انفصالها عن زوجها الأول، وكان الغرض من التعارف هو إيقاع سلطانة الغرام فى هوى الضابط الألمانى.
اندلعت الحرب العالمية الثانية ، وعادت فهمى للرقص في الملاهى المصرية، واختفى أبلر من حياتها لفترة، إلا أنه عاد للظهور مجددًا، بعد نجاحه التسلل إلى مصر متنكرًا وزميل له في ملابس عسكرية بريطانية، وعادت العلاقة بين الاثنين، ورغم علاقتها بالضابط الإنجليزى، إلا أن حكمت فهمي كانت شديدة الكراهية لبريطانيا وجيشها، ويعود ذلك لقصة شخصية روتها لاحقًا، حيث قالت : كان فى حياتى حادث قديم عندما كنت صغيرة، وجدت نفسى فجأة وسط مظاهرة يطاردها الإنجليز ولم أستطع الجرى، فوقعت على الأرض وانهال الكونستابلات عليّ بالضرب بالكرباج حتي أغمى عليّ وسالت الدماء من جسدى .. ومنذ ذلك اليوم أضمرت للانجليز كراهية لا حدود لها.
كراهية فهمى للإنجليز ومصارحتها للرجل، التي عرفته باسم حسين جعفر جعله يكشف لها شخصيته الحقيقية، وعن مهمته التجسسية، والتى كلفه بها قائد جيوش النازيين في شمال إفريقيا، إرفين روميل، والذي كان على أعتاب العلمين بعد انتصارات كبيرة حققها على جيش الحلفاء، وكما لو أنها قد وجدت فرصتها أخيرًا للانتقام.
أبدت حكمت فهمي حماسة كبيرة للتعاون مع الألمان. وبالفعل قامت فهمى بتأجير إحدى عواماتها لإبلر ليستخدمها مقرًا لإرسال المعلومات لرؤسائه، وفى أحد الأيام تعطل جهاز اللاسلكى، وكان على الجواسيس الألمان حل المشكلة فى سرية تامة وبشكل سريع وهو ما دفعهم للاستعانة بفهمى، والتى لجأت لحسن عزت، صديق أنور السادات الضابط بالجيش المصرى والذى أبدى استعداده للتعاون في حل المشكلة بدوره، نظرًا لكراهيته الشديدة للإنجليز.
وحصلت حكمت فهمي على معلومات في غاية الأهمية للجيش الألماني، كمواقع جيوش الحلفاء واستعداداتها، أما أهم المعلومات التي حصلت عليها فكانت تركيز الإنجليز للدفاع فى منطقة العلمين، وهى المعلومة التي لم تكن لدى روميل، ولم تصل له أبدًا، لأنه تصور أن الجيش البريطاني على بعد أميال من المنطقة.
وككثير من أبناء مهنته، جاء السقوط على يد إمرأة، فقد كان أبلر على علاقة براقصة فرنسية يهودية تدعى إيفت، وكانت فى الحقيقة جاسوسة بدورها تعمل لصالح الوكالة اليهودية فى مصر، وبينما كانت تقضى الليلة في عوامته سمعته وهو يتحدث بالألمانية مع زميله عن المعلومات التى لديهم وجهاز الإرسال الذى يخصهم، حيث كانت القيادة الألمانية قد حذرتهم من استخدام جهاز الإرسال فى هذا التوقيت، وكانوا هم يتناقشون حول أهمية إرسال المعلومات التى تحصلت عليها فهمى.
أبلغت إيفت قادتها، وأبلغوا بدورهم المخابرات البريطانية، لتسقط شبكة التجسس الألمانية، وأودعوا جميعًا سجن الأجانب، فيما أفلت السادات فقط من هذا المصير، بعدما أنكر معرفته بالألمان، أما باقي الجواسيس، فقد قابلهم رئيس الوزراء البريطاني نفسه، وينستن تشيرشيل، حيث ساومهم بين الإعدام أو الإفصاح عن سر شفرتهما، وقد اختاروا الخيار الثانى، والذى من خلاله استطاع البريطانيون خداع روميل، ما تسبب فى هزيمته فى النهاية.
سنتين ونصف قضتهم السيدة التى سحرت مصر وأوروبا برقصها فى سجن الأجانب حتى وجدت طريق الحرية برشوة قدرها 200 جنيه.
أما علاقة فهمى بالضباط الأحرار، فكانت عن طريق السادات، الذى كان ينقل عنها أخبار السراى لزملائه، فكانت مصدر معلومات مهم من داخل القصر الملكى، حتى ساهمت تلك المعلومات فى الإطاحة بالملك فى يوليو من عام 1952.
حكمت فهمى تزوجت من المخرج محمد عبد الجواد، وأنجبت منه، فيما قدمت سيرتها الذاتية في الإذاعة المصرية فى الستينيات، وقد تم إنتاج فيلم عن قصة حياة حكمت فهمي حمل اسمها، عام 1994، من بطولة الفنانة نادية الجندي والفنانين فاروق الفيشاوى وحسين فهمى .
اما فى الخارج فقد تم انتاج فيلم بريطاني عام 1960، باسم Foxhole in Cairo، والذي يروي قصة الجاسوس الألماني «أبلر»،Rommel Ruft Kairo.