النفي الرسمي السريع والمشدد لوجود أية نوايا لإرسال قوات إلى سوريا يكشف جانبا مهما من الموقف المصري تجاه مثل هذه المقترحات التي تثور بين الحين والآخر، والحقيقة أن تلك الأفكار – ورغم النفي – إلا أنها تبدو دخانا مرئيا لكثير من نيران ضغوط دولية خفية من أجل وضع تصور للتعامل مع ازمات المنطقة التي باتت مزمنة.
وتمتلئ كثير من مصادر المعلومات الإعلامية والتحليلات السياسية بالعديد من الأفكار التي تتحدث عن ضغوط دولية تمارسها قوى كبرى على دول عربية مؤثرة من أجل لعب دور أكبر في سوريا، خاصة بعد أن تحولت أرض الشام إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، فضلا عن رغبة القوى الكبرى، وتحديدا الولايات المتحدة وروسيا، في عدم الوصول إلى مواجهة مباشرة بينهما، وبالتالي يمكن أن يمثل وجود قوات عربية في سوريا صمام أمان مهم، قد يحول دون مزيد من التورط لتلك القوى في المستنقع السوري، إضافة إلى تجنب الاحتكاك المباشر.
ولا حاجة للتأكيد على أهمية الملف السوري بالنسبة لمصر، ليس فقط على مستوى الأمن القومي، بل كذلك على المستوى السياسي والاقتصادي بل وحتى الإنساني، فسقوط سوريا سيكون وبالا على مصر على مختلف تلك المستويات، وبالتالي فإن مصر معنية بشكل مباشر بالحفاظ على مؤسسات الدولة السورية من الانهيار، والسعي لإيجاد مخرج آمن للأزمة التي تقترب من منتصف عامها الثامن، دون أية آفاق حقيقية للحل.
وفي المقابل يبدو النفي المصري لإرسال قوات عسكرية إلى سوريا مستندا إلى حقائق تاريخية وواقعية واضحة وراسخة، وأول تلك الحقائق أن مصر بالفعل من الدول التي تتسم بالتحفظ الشديد إزاء المغامرات الخارجية لقواتها، فمنظومة الأمن القومي المصري تعتمد على رؤية وطنية بحتة، تعتمد على حماية الحدود المصرية، وعدم الانسياق وراء المسارعة لإرسال قوات مصرية للقتال خارج الحدود، وخلال العقود السبعة الماضية، لم تقم القوات المصرية بالقتال خارج أراضيها إلا في مناسبتين تقصل بينهما ما يقرب من أربعة عقود، الأولى في ستينيات القرن الماضي في اليمن، وكان الثمن فادحا، والثانية في العراق عقب غزوه للكويت، وكانت المكاسب الاقتصادية – على الأقل- واضحة، فضلا عن أن اللحظة السياسية والأمنية والاقتصادية التي تعيشها مصر حاليا تصب في اتجاه التركيز على الأولويات الداخلية.
وربما هذه ليست هي المرة الأولى التي يتردد فيها حديث عن دور مصري لقوات خارج الحدود، منذ زلزال ما يسمى بـ”الربيع العربي”، فمصر التي طالتها تداعيات هذا الزلزال، بدت مطالبة باحتواء كثير من الحرائق المشتعلة في المنطقة، وفي مقدمتها في ليبيا وسوريا واليمن، لكن القرار السياسي المصري استطاع أن يلتزم نهجا عقلانيا في التعامل مع ضغوط إرسال قوات عربية للقتال خارج الحدود، ومنها ضغوط من دول عربية شقيقة، كانت تأمل أن تكون القوات المصرية لاعبا فاعلا في تحالف عربي للقتال في اليمن على سبيل المثال، لكن مصر استطاعت أن توجه دفة قرارها باتجاه الابتعاد عن أية مغامرات غير محسوبة، وقامت بالحد الأدنى من الوجود الذي يضمن الحفاظ على أولويات الأمن القومي المصري دون التورط المباشر.
ورغم التأثير المباشر للأوضاع في ليبيا، وما تمثله حالة الانفلات والسيولة في ليبيا على مصر، باعتبار ليبيا الجار الغربي لمصر، إلا أن القاهرة اعتمدت كذلك منهجا متوازنا للتعامل مع التحدي الليبي، واختارت عدم التورط في ذلك المستنقع الخطير، رغم قسوة الظروف والضغوط التي تعرضت لها مصر في بعض الأحيان نتيجة الاستفزازات التي قامت بها جماعات الإرهاب الموجودة على الأراضي الليبية لدفع مصر إلى رد فعل عنيف، وربما متهور.
لذلك فمن شبه المؤكد أن تلتزم مصر بذات النهج في تعاملها مع المأزق السوري، وأن تتجنب التورط بصورة مباشرة، خاصة أن المستنقع السوري بكل ما يحمله من حساسيات سياسية وطائفية ومذهبية، وحسابات إقليمية ودولية، يعتبر حقل ألغام حقيقي، لا يأمن من يخوض فيه تداعيات خطواته.
لكن في المقابل من غير المتوقع أيضا ألا تكون مصر حاضرة في معادلات الحل السياسي التي تلوح في الأزمة من وقت إلى آخر، خاصة أن هنا توجها متصاعدا لإنهاء حالة التجاهل العربي للعب دور في سوريا، وهو ما أفقد العرب أوراقا مهمة للتأثير، وجعل القرار في الأزمة السورية يصدر من عواصم عديدة، كلها – للأسف الشديد- غير عربية.