الاستاذ جابر رجل عصامى قام ببناء مصنع للنسيج فى الستينات وتفرغ لإدارته والإشراف عليه وسخر كل وقته وتفكيره لتطوير المصنع وجودة الانتاج ليتماشى مع متطلبات ومعايير السوق المحلي فاكتسب ثقة المستهلكين وأصبح إنتاج المصنع علامة للجودة داخل البلاد, وتوسع الأستاذ جابر وبدأ فى تصدير انتاج مصنعه للخارج واكتسح انتاج مصنع جابر السوق الخارجي بسبب دقة الانتاج والخامات المكونة من القطن المصرى والاهتمام بتطوير المنتجات لتتماشى مع متطلبات السوق, تدفقت الأموال على الأستاذ جابر فبدأ في بناء مصنع آخر وآخر حتى أصبح لديه قلعة صناعية متكاملة مكونة من مجموعة مصانع وآلاف العمال والمهندسين والإداريين.
اهتم الاستاذ جابر بالعمال اهتمامًا بالغًا ولأنه كان مقتنعًا أن الأيدي العاملة الماهرة هى سر نجاح أي مصنع حرص على تدريب العمال بصفة منتظمة والتأكد من كفاية أعدادهم على خطوط الإنتاج المختلفة, ولأنه أيضا كان مقتنعًا أن الإنسان حتى يصبح فرد منتج ناجح يجب أن يتوفر له العمل فى ظل ظروف صحية ونفسية متميزة، اهتم الأستاذ جابر بالحياة الاجتماعية لعمال مصانعه وسن مجموعة من القوانين الوظيفية التي تضمن حقوق العمال وتحصنهم ضد الفصل المفاجئ أو التعسفي وتوفر لهم معاشات وتأمينات تطمئنهم على مستقبل أسرتهم, كما وضع نظام لتوزيع نسبه من الأرباح سنويا على العمال حتى أصبح العامل يتفانى فى الإنتاج لإحساسه بأنه شريك فى المصنع الذى يعمل به وكل مكسب هو مكسب له شخصيًا.
مات الأستاذ جابر تاركًا طفلين هم شاكر وماهر وتولت مجموعة من أقاربه إدارة المصانع حتى يكبر أطفاله ويصبحون قادرون على إدارتها بأنفسهم, للأسف أهمل هؤلاء الأقارب فى إدارة المصانع فتوقف تجديد خطوط الانتاج حتى أصبحت تنتج مصنوعات عفا عليها الزمن كما أهملوا في تدريب الأجيال الجديدة من العمال فأصبح انتاجهم رديئا وقاموا بتعيين عشرات المهندسين والإداريين من أصدقائهم ومعارفهم فى وظائف لا يحتاجها العمل فقط كنوع من المجاملة واستغلال السلطات؛ ما أدى إلى تذمر العمال ومطالبتهم هم أيضا بحقهم فى تعيين أبنائهم وإخونهم وأقارب زوجاتهم و الجيران كعمال فى المصانع بغض النظر عن احتياجات الانتاج او الكفاءه و اضطر اقارب جابر للاستجابه لمطالب العمال حنى لا يقوموا بفضحهم مما ادى الى تكدس العنابر بمئات العمال الذين لا حاجه لهم , عاما وراء الاخر خسرت مجموعه مصانع جابر حصتها فى السوق المحلى و توقفت عن التصدير الخارجى بسبب قدم خطوط الانتاج و رداءه الصناعه و انتشر الفساد فى الأداره و تحول العامل من فرد منتج متفانى فى عمله تسعه ساعات يوميا الى فرد متفانى فى كيفيه الهروب من العمل لأربعه و عشرون ساعه يوميا , اختفت الأرباح وتحولت المصانع إلى شركات خاسرة وعندما أرادت الإدارة تطبيق قانون توزيع الأرباح الذى وضعه الاستاذ جابر وأعلنت انه لن يتم صرف نسبه الأرباح للعمال لأن الشركات خاسرة ثار العمال ثورة عارمة, واستغل الموقف مجموعة من المنافسين أصحاب المصانع الأجنبية الذين أرادوا ضمان استمرار الانهيار داخل مصانع جابر التى كانت دوما تنافسهم و تتفوق عليهم، فقاموا بالاتفاق مع مجموعات من المرتزقه الذين تسللوا داخل أوساط العمال و تقربوا منهم تحت ستار الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم فنجحوا فى اقناعهم بأنهم غير مسئولين تماما عن الانهيار الذى أصاب مصانعهم وأن المسئوليه تقع بالكامل على الادارة الفاسدة واعموا أعينهم عن الحقيقة الواضحة للجميع بأن المسئوليه عن الانهيار الاقتصادى للمصانع مشتركه و نجحوا فى تجاهل المبدأ الاساسي الذى وضعه الأستاذ جابر بأن العامل شريك فى مصنعه وبقدر ما ينتج بقدر ما يأخذ.
ونجح مخطط أصحاب المصانع المنافسة فى تدمير مصانع الأستاذ جابر وتمسك العمال الذين تم غسيل دماغهم بحرفية شديدة بمطالبهم وأعلنوا العصيان والإضراب العام حتى يتم تنفيذها, ولأن الإداره بدورها كانت فاسدة وضعيفة اضطرت للاستجابه لمطالب العمال وصرف أرباح لهم عن عملهم بمصانع خاسرة و تعيين المزيد والمزيد من أبنائهم وأقاربهم لتغطية كل تلك الخسائر المدخرات من الأموال التى تركها الاستاذ جابر لأطفاله حتى تبخرت كل الأموال سنة وراء الاخرى واتجهت بعد ذلك إلى الاستدانة بضمان المصانع حتى تستطيع مواجهة الاضرابات والاعتصامات وتلبية مطالب العمال التى تتزايد عاما وراء عام , حتى انهارت المصانع تماما و غرقت فى بحر المديونيات.
كبر شاكر وماهر وتسلم كل منهما نصيبه من تركة والدهم وبدأ كل منهم يفكر فى كيفيه إنقاذ نصيبه من المصانع, ولأن شاكر كان ضعيفا و يتجنب الصدامات فلم يجد حلا إلا الاستدانه من أصدقاء عمره فى دول الخليج حتى يستطيع الاستمرار فى دفع المرتبات والأرباح للعمالة الزائدة ويتجنب غضب وإضراب العمال ويحقق مطالبهم التى ارتفعت مرة أخرى ووصلت إلى تحديد حد أدنى للأجور يماثل حوالي ضعف مرتب معظمهم دون أن يتركوا الحرية لصاحب العمل في تحديد حجم العمالة المطلوبة وهو ما يتنافى مع كل قواعد الاقتصاد والعدل وأصبح مطلوبًا منه أن يدفع مرتبات مضاعفة لعماله لا يحتاج أكثر من نصفها وهو ما يعنى استمرار المصانع فى تحقيق الخسائر الفادحة, تلاشت الأموال التي استدانها شاكر من أصدقائه فى الخليج ولم يعد لديه ما يفعله، فقام مضطرًا بإغلاق المصانع ولم يجد العمال من يدفع لهم مرتبات أو أرباح أو حتى من يوفر لهم عمل آخر فقد رفض كل أصحاب المصانع الأخرى من توظيفهم لما لهم من سمعة سيئة فى الإضراب و البلطجة, و تخلى عنهم أصدقائهم ممن حرضوهم قديمًا على الإضراب بعد أن نجحوا فى تحقيق أهدافهم وتم إغلاق المصانع وخرابها.
ماهر على العكس تماما كان قد اتخذ قراره بأنقاذ نصيبه من مصانع والده مهما كلفه الأمر, درس الوضع المالى والاقتصادى للمصانع ووضع خطة الانقاذ و بدأ فى التنفيذ , استدان هو الاخر الاموال من اصدقاء عمره فى الخليج و لكنه لم يبددها فى المرتبات و الارباح الغير مستحقه , باع ماهر كل خطوط الانتاج القديمه و قام بشراء بدلا منها خط او خطين انتاج وفقا لأحدث المواصفات فى كل مصنع وقام بتحديد احتياجه من العمالة فى كل مصنع واختار من يصلح فقط من العمال و قام بالاستغناء عن العماله الزائده و كل من لا رغبه حقيقيه له فى العمل ضامنا لهم فى الوقت نفسه حقوقهم.
فى المعاش و التأمينات وفقا للقانون الذى وضعه والده الراحل و لم يلتفت او يعير انتباها لأصوات مدعى حقوق العمال ولا للهجمات الشرسة التى شنوها عليه فى الاعلام و مواقع التواصل الاجتماعى لأنه كان على علم بالدوافع الحقيقيه لهم ووضع فقط نصب عينيه كيفيه إنقاذ المصانع و مسئوليته تجاه المساهمه فى اقتصاد وطنه ككل والارتقاء مره اخرى بالصناعه التى كانت يوما ما من اهم مصادر الدخل القومى, بدأت مجموعه العمال التى اختارها ماهر و دربها فى العمل على خطوط الانتاج الحديثه و كانت النتائج مبهره, ظهرت مره اخرى منتجات مصانع جابر فى الاسواق كما اعتادها الناس قديما بما يميزها من الجودة و مواكبة أحدث الأزواق وبدأ نشاط التصدير مرة أخرى, لم يستطع المنافسون بالخارج الوقوف أمام جودة الخامة المصرية التى فقط كان ينقصها جودة الصناعة وهو ما تحقق مره أخرى على يد ماهر فاكتسحت منتجاته الأسواق الخارجية, وتدفقت الأموال إلى يد ماهر فبدأ فى سداد جزء من الأموال التى استدانها وشراء المزيد من خطوط الانتاج بالمتبقى و هو ما استدعى الحاجة إلى المزيد من العمال فبدأ فى استدعاء مجموعات من العمال ممن استغنى عنهم قديمًا بعد أن وعوا الدرس وأدركوا أن الاضرابات والمطالبة بالحقوق دون تقديم المقابل لها من تفانى فى العمل ليست هى الحل, وتضاعف الإنتاج فى مصانع ماهر وتضاعفت خطوط الإنتاج والعمالة حتى امتلئت المصانع كلها مرة أخرى وزادت مرتبات العمال حتى تخطت الحد الأدنى الذى طالبوا به قديما بالضعف وزاد نصيبهم فى الأرباح عامًا وراء عام وعادت مصانع ماهر التى ورثها عن أبيه أحد قلاع البلاد الاقتصادية.
هل سنصبح مثل ماهر أم نواجه مصير شاكر .. هذا هو وقت الاختيار