خاص (الموقع)
كانت ساعات ثقيلة جدا، لم أتعرض لها من قبل، فقد زارنى الموت فى الساعات الأولى من صباح اليوم، كنتُ أنهيت يوم عمل كاملا، وعائدا لتوى إلى البيت، أبحث عن شئ أسد به رمقى، فإذا به جالسا فى غرفة الاستقبال، عرفتُه منذ الوهلة، فقد تلاقينا مرات عدة، لا أخفى سرا أننى تملكتنى حالة غير مسبوقة من الفزع، مددتُ يدى إليه مصافحا، فنظر إليها شذرا، ولم يصافحنى، حاولت أن أجمع شتات نفسى، فشلت، وقف الكلام على لسانى، إلا جملة واحدة، عندما سألته: أجئت قابضا أم زائرا؟ فلم يعقب، فى المرات السابقة، كانت تدور بيننا أحاديث ودية، هذه المرة بدا متجهما صامتا محتقرا، أدركت أنه حضر قابضا، أردت أن أمازحه، فاستأذنته أن أتناول لقيمات يقمن صلبى، لأتحمل الموت وسكراته، فلم يعقب، أعدتُ الطعام إلى الثلاجة، وفهمتُ الرسالة، فقد حضر سيادته قابضا، أردت أن أتوضأ وأصلى ركعتين، لكنه أشار إلىّ بالجلوس فجلستُ، بقى صامتا شاردا شاخصا ناظريه إلى أعلى تارة، وإلىّ تارة أخرى،آويتُ إلى مخدعى المتواضع، سرت فى أوصالى قشعريرة لم أتمكن من تحملها، انهمر العرق من جسدى كله، تدثرتُ بكل ما طالته يدى، أدركتُ أنها لحظة النهاية، أردت أن أهاتف أخى ليحضر، حتى لا أقضى وحدى ولا يعلم أحد بأمرى إلا بعدها بأيام، فنهض من مكانه وتناول تليفونى المحمول بعصبية وأغلقه دون كلمة واحدة، ضاقت علىّ نفسى و ضاق علىّ صدرى، وقفت أنفاسى تقريبا، شخص بصرى، أيقنتُ أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، أردت أن أتلو بعضا مما أحفظه من كتاب الله، لم تقو ذاكرتى على شئ، زادت درجة حرارتى ، نظرتُ إليه راجيا أن يقضى ما هو قاض،كانت اللحظات تمضى متثاقلة، أحسستُ كأن يديه تطوقان رقبتى، استسلمتُ، لم أقاوم، خارت قواى تماما، لحظتئذ.. رمقنى بعينيه، وأطلق ضحكة زاعقة، ثم قال: أرأيت كم أنت ضعيف؟ فلم أعقب، لسانى كأنه أصيب بشلل، ثم دنا فتدلى، فزاغ بصرى، ثم نطق صارخا: اليوم 11 أبريل، ألا يذكرك هذا اليوم بشئ؟ أدرك أننى أعجز عن أن أنطق ببنت شفة، ثم أردف قائلا: اليوم هو الذكرى الأولى للعملية التى أجريتها قبل عام، فأومأتُ برأسى، ثم تابع: كنتُ معك ساعة إجراء العملية، وكنت تعلم أن نسبة نجاحها ضئيلة، ولكنك رجوتنى وتوسلت إلىّ أن أنصرف، ووعدت الله بأمور كثيرة، لم تصنع منها أمرا واحدا، غرتك عافيتك الجديدة، التى لم تعهدها من قبل، نسيت ميثاقك الذى أبرمته مع الله، فيا هذا ما غرك بربك الكريم، الذى خلقك فسواك فعدلك، وأبرأك من أسقامك، ووقف إلى جوارك يوم أن تخلى عنك رفاقك؟ أردتُ أن أعقب على قول ضيفى، ولو ملتمسا الأعذار، فظل العجز ملازما لى، أيقنتُ مجددا أننى سأموت مذنبا، ترجل الموت ، ودلف إلى داخل إحدى غرف مسكنى، ثم عاد قائلا: يا هذا، اطمئن، لم آت اليوم إليك قابضا، فآوامر الموت نتلقاها من الله، “فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون”، وإنما أتيتك زائرا وواعظا ومذكرا، لا تنس يوم أن كنت ضعيفا واهنا، لا تنس أن الله اعاد إليك الحياة، فى وقت كان أطباؤك يدركون أن الموت أقرب إليك، يا هذا إنى أعظك، ألا تنسى حالك يومئذ والآن، ها أنت ترقد أمامى مستلسما واهنا عاجزا لا حول لك ولا قوة، سوف أمضى، ولكنى حتما سأعود إليك يوما قابضا، إنى أعظك أن آتيك وأنت فى أمان فى دينك، إنك كنت أهدى سبيلا عن الآن، عد إلى رشدك، لا تنس ميثاقك مع الله، ابدأ فى تفعيله من الآن.. ثم غادر دون سلام، فبقيتُ فى مخدعى، طوال الليل، ترتعد فرائصى، وأتصبب عرقا، ولم أنم دقيقة واحدة، حتى أشرقت شمس الصباح بإذن ربها، وقد عقدتُ العزم على أن أكون فى معية الله، حتى تقوم قيامتى، فالموت هو الشئ الوحيد فى الكون كله، الذى لا يقبل تشكيكا.