فى يوم كهذا قبل 34 عامًا، كان يرقد فى سريره ينتظر الرحيل، يكتب بأصابعه المريضة آخر الكلمات عن حياته، تلك التى حفلت بكثير من المغامرات والأسرار التى لم تكن سوى لعبة
بل أخطر ألعاب الدنيا، لم يختر هو أن يلعبها، بل فُرضت عليه، لكنه أتقنها حتى أصبح ملكها، إنها لعبة الجواسيس التى قادته من قلب القاهرة لقلب تل أبيب، ليصبح عينًا لا تنام، تراقب كل شيء وأى شيء فى أرض العدو، ويصبح أهم «قطعة» للمخابرات المصرية فى لعبة شطرنج، ربما لن تنتهى أبدًا، بينها وبين الموساد، إنه جاك بيتون، أو رفعت الجمال، أشهر جاسوس فى تاريخ مصر، إنه من تعرفه أنت باسم «رأفت الهجان».
نشر مذكرات الجاسوس المصرى رفعت الجمال على حلقات، كما كتبها هو بخط يده، وحسب روايات زوجته، «فولتراود الجمال»، التى نشرتها فى كتاب يحمل اسم «قصة الجاسوس المصرى رفعت الجمال.. 18 عامًا من الخداع لإسرائيل»، الصادر عن «دار الأهرام للترجمة والنشر»، عام 1994، وذلك بمناسبة ذكرى وفاته فى 30 يناير 1982.
استطاع رفعت الجمال أن يؤمن عمله فى مجال السياحة ودشن مع شريكه الدكتور وايز شركة «سى تورز»، كما تعرف على شخصيات مرموقة فى المجتمع الإسرائيلي، أبرزهم موشيه ديان وعزرا وايزمان، كما استطاع أن يحصل على حجم عمل كبير من موظفى الحكومة لشركته، ليروى ما حدث بعد ذلك فى مذكراته: «حان الوقت لأول رحلة عمل رسمية أقوم بها خارج إسرائيل. سافرت فى أكتوبر 1956 إلى روما للتفاوض بشأن سفر مجموعة من السياح إلى إسرائيل. وبعد يومين والعديد من الإجرائات الاحترازية لتضليل أى عناصر يحتمل أن تتعقبني، سافرت إلى ميلانو حيث التقيت برئيسى المباشر، وهو المسؤول عن فريق المخابرات المصرية العامل فى وسط أوروبا، حيث أبلغته أن إسرائيل عقدت اتفاقًا سريًا مع فرنسا حصلت بموجبه على أسلحة ثقيلة ومعدات عسكرية.
وبعد أن قدمت له تقريرًا كاملًا سافرت إلى فرنسا حيث بقيت بضعة أيام لكى أقابل، حسب التصور الرسمي، أسرتي. وعدت إلى إسرائيل بعد غيبة ثمانية أيام. ومضى الوقت دون تطورات تذكر والشيء الهام الوحيد الذى استطعت أن أكتشفه هو أن إسرائيل كانت تجرى مفاوضات مع فرنسا للحصول على مزيد من الأسلحة، إذ كانت فرنسا مهتمة بأن تكون لها سيطرة على قناة السويس، كما أن إسرائيل لم تكن تطمئن إلى جمال عبدالناصر، وكانت تبحث مع فرنسا كيفية فرض العزلة عليه أو حتى الإطاحة به. وأعلن (عبدالناصر) تأميم قناة السويس، وهنا ثارت ثائرة العالم الغربي، وجرت مفاوضات، ولكنه رفض أى مساومة.
خلال هذه الفترة حصرت اهتمامى لكسب ثقة موشى ديان وعزرا وايزمان وسام شواب. أحسست أن ثمة شيئًا هامًا يوشك أن يحدث، وعن طريق (ديان) قابلت جولدا مائير وبن جوريون. أظهرا كلاهما ودًا شديدًا نحوي، وسرعان ما تعاملا معى مثل (ديان). وأفادنى هذا فى مهمتى فائدة كبيرة للغاية، وقد حرصت أشد الحرص على أن أكسب أى موقع فى الصدارة يمكن الوصول إليه.
كنت حذرًا غاية الحذر، ومن ثم قضيت أطول وقت ممكن مع (ديان) و(شواب)، واكتشفت أن إسرائيل تخطط لعملية عسكرية خاصة بشبه جزيرة سيناء، أعطتها الاسم الشفرى (قادش) بهدف تدمير وإضعاف القوة العسكرية المصرية قدر المستطاع.
وفى هذه الأثناء كانت مصر تتفاوض مع سوريا والأردن ظنًا منهم أنه إذا ما وقع هجوم إسرائيلى فسوف يكون ضد الأردن. وفى اللحظة التى عرفت فيها أمر الخطة رتبت أمورى لمغادرة إسرائل وإبلاغ رئيسى أن إسرائيل تخطط فعلًا لتوجيه ضربة إلى مصر، وهكذا عدت مرة ثانية إلى روما، واتخذت الخطوات اللازمة لتأمين نفسي، وسافرت إلى ميلانو لمقابلة رئيسي.
فوجئ بى حين رآني، ولكن بعد أخذ ورد، وافق على أن يستمع لي، لم يصدقني، وقال إن إسرائيل ستوجه الضربة إلى الأردن، وأن جميع الدلائل تشير إلى هذا الاتجاه. استبد بى الضيق ورجوته أن يصدقني، وأكدت له أن إسرائيل ستعطى لفرنسا المبرر للتدخل، ومن ثم تستطيع فرنسا أن تسيطر على قناة السويس.
وبعد مناقشات طويلة أخذ كلامى مأخذًا جادًا، وقال لى إنه سيسافر إلى القاهرة فورًا ويبلغهم بمعلوماتى التى توصلت إليها. عدت إلى إسرائيل وعرفت أنباء الحرب من هناك، ولست أدرى لماذا لم تأخذ مصر تحذيرى بصورة جدية. لابد وأنهم لم يصدقونى ووقع المقدور. أحسست بالصدمة، لماذا صموا آذانهم عن كلامي؟ كان (عبدالناصر) يستطيع على الأقل أن يرد الرد المناسب فى وقت مبكر. ومع ذلك وكما يقول التاريخ، فقد حول الهزيمة العسكرية إلى نصر سياسي، ومنذ ذلك الوقت هدأت الحال، ولم يكن عندى غير عملى الروتينى وهو إرسال تقارير عادية إلى رئيسي.
ومضت الأيام بصورة طبيعية إلى أن جاء فجأة فى مكتبى فى أكتوبر 1957 زائر لم أكن أتوقعه. إنه إيلى كوهين. صحبته إلى المقهى محاولًا أن أستكشف منه ما إذا كان يعرف أى شيء عن حقيقة عملى فى إسرائيل، وتبين لى أنه لا يعرف شيئًا وأنه لا يزال يصدق أننى يهودي. تحدثنا طويلًا، وحكى لى كل ما فعله خلال الفترة الماضية التى لم نلتق خلالها، وقال لى أيضًا إنه حصل على وظيفة فى وزارة الدفاع، وعينوه فى إدارة التجسس فى القطاع العربي. قلت فى نفسى على الفور ها هو مصدر معلومات آخر جيد دون أن يعرف. وقررت أن يكون هناك اتصال منتظم بينى وبين إيلى كوهين، ذلك أن وظيفته الجديدة مهمة جدًا بالنسبة لي.
واعتدت أنا و(إيلي) أن نقضى أوقاتًا كثيرة سويًا، وقدمته إلى سام شواب، الذى كان لا يزال يعمل فى الشين بيت، جهاز المخابرات الداخلية، ويعتبر إلى حد ما زميلًا لإيلى كوهين. وخاجلنى شعور بأنهما يعرفان بعضهما من قبل، غير أننى كتمت هذا الشعور داخلي».