رغم أن شعبية المرشح الرئاسي المشير عبد الفتاح السيسي، تنبع من دوره العام في دعم الشعب المصري للإطاحة برئيس الإخوان محمد مرسي، في 3 يوليو الماضي، إلا أن وضعه كـ«رجل دولة» هو الذي جعل رئاسته أمرًا مهمًا عند العديد من المصريين؛ حيث إن كل رئيس تولى حكم مصر منذ ثورة 23 يوليو في العام 1952، كان إما من المؤسسة العسكرية أو الهيئة القضائية، وهؤلاء من نسميهم برجال الدولة، باستثناء المعزول مرسي، الذي كان «رجل الجماعة».
وفي رأيي، فإن العديد من المصريين يرغبون في ظهور «رجل دولة» يتولى سدة الحكم في الوقت الحالي؛ أملاً منهم في قدرته على إحكام السيطرة على الأوضاع واستعادة الأمن والأمان من جديد، في ظل ارتفاع وتيرة العنف وزيادة الهجمات الإرهابية من قِبل الجهاديين المتمركزين في شبه جزيرة سيناء، والتي انتقلت إلى قلب العاصمة أخيرًا، فضلاً عن الحملة التي تدعمها جماعة الإخوان لاغتيال مسؤولين في جهاز الشرطة، ورغم ذلك؛ فهناك العديد من المصريين أيضًا لا يفضلون دعم القادة العسكريين، أو أن يتولى قيادة البلاد رجل عسكري.
وبالحديث عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والتهديدات الأمنية الخطيرة في مصر، نجد أنها مُجتمعة تجعل مهمة الرئيس القادم صعبة للغاية، كما أن قدرة ذاك الرئيس على دعم وتوحيد هيكل القوة المؤسسية الحالي ستكون أمرًا حاسمًا في بيئة سياسية صعبة جدًا، على المستويين المحلي والدولي؛ حيث إن الوضع على أرض الواقع يختلف اليوم عما كان عليه سابقًا، ففي عامي 2011 و2013 على وجه الخصوص، كان لدى المؤسسة العسكرية ومؤسسات قوية أخرى في الدولة محفزات معقولة للتحرك مُتحدة ضد من هم في السلطة؛ حيث إن كثيرا ممن هم في تلك المؤسسات كان قد رفض في عام 2011 ترشح جمال نجل الرئيس المخلوع حسني مبارك، للرئاسة، وشعروا بالإحباط من دور الأسرة الحاكمة الآخذ في الازدياد بالنسبة لعملية صنع القرار، وفي العام 2013، عملت قيادة جماعة الإخوان التي افتقرت إلى الكفاءة في حكم البلاد، على دفع أجهزة الدولة المختلفة إلى دعم المتظاهرين. خلاصة الموضوع أن التكوينات المؤسسية في كلتا الحالتين لم تكن تفضل من هم في السلطة وقتئذٍ، ما نتج عنه اتحادهم ودعمهم لبعضهم البعض للإطاحة بمن في السلطة، وهذا ما أعتبره تحديا آخر يجب أن يضعه الرئيس القادم نصب عينيه للعمل على توحيد ودعم مؤسسات الدولة المختلفة.
وإذا ما اعتبرنا أن المشير عبد الفتاح السيسي، هو الرئيس القادم لمصر، الذي سيواجه تلك التحديات الكبيرة وتواجهه؛ فإن خلفيته المهنية كونه يتمتع بعلاقات وثيقة مع القادة العسكريين في مصر ومختلف حكومات دول الخليج العربي، وكذلك اصطفاف معظم أجهزة ومؤسسات الدولة وراءه، وتمتعه بدعم كبير من العديد من مراكز السلطة، قد تمنحه ميزة على المرشح المنافس حمدين صباحي، ولكن لا يزال يتعيّن على السيسي التعبير عن آرائه بوضوح فيما يخص قضايا الحوكمة والاقتصاد والسياسة الدولية، حتى يكون مستعدًا لاتخاذ قرارات جريئة والوفاء بوعوده للشعب المصري المتعطش لحياة أفضل، وإلا فإن المظاهرات الصغيرة المناهضة للجيش والحكومة -على السواء- التي نشهدها في وقتنا الراهن سوف تتحول إلى مظاهرات جماهيرية حاشدة في الغد.
ولقد أظهرت السنوات الثلاث الماضية منذ اندلاع ثورة 25 يناير المجيدة في العام 2011، مدى السرعة التي يمكن أن يتحول فيها الرأي العام المصري، خاصة إذا كان هناك اعتقاد بأن الحكومة غير فعالة في معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية في البلاد، والمرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي، كان قد اعترف بنفسه بوجود تلك التحديات، وفي حال أصبح رئيسًا عليه أن يتعامل مع البيروقراطية المعقدة في مصر من أجل حل تلك المشاكل الأكثر إلحاحًا.
وكلنا يعلم أن الأعباء الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة تُشكل الشاغل الأكبر في مصر، لكن هناك عاملا آخر يمكن أن يُحرك ثورة شعبية ضد حكومة بقيادة السيسي، حال فوزه بالرئاسة؛ وهو الغضب من الإجراءات القمعية ضد الخصوم السياسيين، لاسيما ضد المنتقدين غير المنتمين لتيارات الإسلام السياسي الذين لا يستخدمون العنف، في حين أنه في الوقت الحالي، نجد أن معظم المصريين مستعدون لإعطاء الحكومة مساحة واسعة حول هذه المسألة، في رضًا منهم بقبول الأضرار الجانبية التي يعاني منها دعاة الديمقراطية والمجتمع المدني في نضالهم ضد جماعة الإخوان والمتعاطفين معها، ونظرًا للجهود التي بذلها السيسي حتى الآن لمواءمة عمليات وزارة الداخلية والقوات المسلحة، أُرجح أن يتحمّل العبء الأكبر من هذه الانتقادات مستقبلاً.
وذلك لعدة أسباب؛ من بينها ما أظهره السيسي حينما كان وزيرًا للدفاع من أسلوب جديد في القيادة أكثر انفتاحًا وصراحة من سابقيه؛ على سبيل المثال، كان من بين أولى قراراته تعيين متحدث رسمي شاب، العقيد أركان حرب أحمد محمد علي، كممثل للقوات المسلحة، الأمر الذي كان من الصعب تصوره في عهد المشير حسين طنطاوي، لكن السيسي رأى حاجة إلى تحسين العلاقات مع الشارع، كما أصبح السيسي أكثر انخراطًا من سابقيه بانطلاقه في جولات ميدانية وإحاطة نفسه بضباط شباب؛ من أجل رفع الروح المعنوية للمؤسسة العسكرية، فضلاً عن ابتعاده عن أسلوب القيادة الهيكلي الصارم الذي عزل طنطاوي بشكل تدريجي عن نظرائه وعزز الاستياء داخل القوات المسلحة، كما أظهر السيسي منذ البداية نهجًا أقرب إلى اللعب الجماعي، لاسيما بالنظر إلى صغر سنه وحاجته إلى كسب احترام نظرائه الأكبر سنًا؛ حيث إن نائبه الفريق أول صدقي صبحي القائد العام وزير الدفاع والإنتاج الحربي، أصغر سنًا منه لكنه يفوقه من الناحية الفنية العسكرية، بالإضافة إلى التغييرات الجذرية التي أجراها السيسي على المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وقيامه بتشكيل فريق محل ثقة من الضباط الذين تم انتقاؤهم بعناية.
إن ذلك النهج الذي يتبعه السيسي سرعان ما عزز من شعبيته وساعده على الاحتفاظ بالتماسك، وكان أول اختبار لذلك التماسك قد جرى في الفترة السابقة للانتفاضة الشعبية في يونيو الماضي، عندما حاولت حكومة المعزول مرسي استبداله بزميله المقرب اللواء أركان حرب أحمد وصفي قائد الجيش الثاني الميداني، وقد فشلت تلك المحاولة عندما أعلن الأخير في مداخلة هاتفية له مع فضائية «إم بي سي مصر» في 4 يوليو الماضي، بقوله: إن «تماسك الجيش لا يمكن كسره». كذلك فإن السيسي يبدو فعالاً أيضًا في بناء التحالفات بين المؤسسات التي كانت متنافسة فيما مضى؛ فمنذ توليه منصب وزير الدفاع تحسنت العلاقة بشكل تدريجي بين ضباط الشرطة والجيش، وتم تبادل زيارات رفيعة المستوى بينهما، كما قدموا ملاحظات إيجابية عن بعضهم البعض.
وعطفًا على ما سبق، فقد أظهر السيسي وعيًا بالحاجة إلى إظهار دعم سياسي واسع للقرارات الكبرى التي يتخذها؛ حيث إنه عندما أعلن من على شاشات التلفزيون في 3 يوليو الماضي عن عزل مرسي، كانت مجموعة كبيرة من الشخصيات العامة والسياسيين واضحة في الخلفية، إلى جانب أنه طلب تفويضًا شعبيًا في 24 يوليو الماضي لمكافحة الإرهاب في مصر بلا هوادة، والتأكد من أن الشعب سوف يقبل حملة القمع الشديدة ضد قيادات جماعة الإخوان. أما على المستوى الدولي، فقد قدّم السيسي نفسه باعتباره المحاور الرئيسي فيما يتعلق بالتعاون الأمني بين واشنطن والقاهرة، وهذا أيضًا أمر مختلف عما كان سائدًا في عهد طنطاوي، عندما كان جيل أكبر من ضباط الجيش مترددًا في تبني نموذج أمن الحدود الأوسع نطاقًا والأكثر مرونة الذي سعت إليه الولايات المتحدة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر من العام 2001، ولقد أدى ترددهم إلى إمالة محور التعاون الأمريكي مع القاهرة باتجاه رئيس المخابرات السابق اللواء الراحل عمر سليمان، الذي قدّم نفسه باعتباره همزة الوصل الرئيسية في تلك العلاقة.
وأخيرًا وليس آخرًا، يبقى أمامنا الأمر الأقل وضوحًا المتمثل في مدى حيوية المشير عبد الفتاح السيسي، في معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الهيكلية العميقة في مصر أثناء فترة رئاسته؛ فهو لم يعمل على حل تلك القضايا في الماضي، كما أنه لم يعرب عن رؤية لكيفية معالجتها في المستقبل، وبدلاً من ذلك، فإنه ابتعد عن الحديث عن مواضيع الإصلاح الهيكلي مثل المعونات، التي تمثل أهمية حيوية للتقدم الاقتصادي المصري، لكنها تنطوي كذلك على حساسية كبيرة من الناحية السياسية، وإذا أقدم على معالجة تلك المشاكل بشكل مباشر أو إذا فعل القليل واستمر اقتصاد مصر في التعثر، فمن المؤكد أن تتراجع شعبيته التي يتمتع بها حاليًا.