بينما ينصب الكثير من التركيز المتعلق بالصراع السوري على قضايا التكتيكات العسكرية والسلطة السياسية، لا تلقى الأزمة الإنسانية الكبيرة معالجة لائقة؛ إذ لا يزال هناك الملايين من المدنيين الأبرياء في مخيمات اللاجئين على جميع الحدود السورية، دون نظم حماية من انخفاض درجات الحرارة ونقص الغذاء وحالات الطوارئ الصحية والعنف الجنسي، وغيرها من المخاطر التي قد تعصف بهم.
وتتعاظم يومًا بعد يوم مأساة اللاجئين السوريين، حيث يبحث مئات الآلاف من العوائل السورية عن ملجأ آمن في إحدى دول الجوار، إضافة إلى النزوح الجماعي لمناطق كاملة بسبب ما لحقها من تدمير، وهو أمر سبق أن تم التحذير منه من جانب منظمات إنسانية دولية وإقليمية، خصوصًا بعد فشل أو تقاعس المجتمع الدولي عن القيام بمسؤوليته إزاء اللجوء والنزوح الجماعي، ولا سيّما مساعدة الدول المضيفة.
واليوم تخطّى عدد اللاجئين السوريين المليوني إنسان، علمًا بأن عدد غير المسجلين يبلغ أضعاف هذا الرقم، سواء في دول جوار سوريا أو غيرها. وبحسب بعض التقديرات فإن عدد اللاجئين السوريين تجاوز الأربعة ملايين، ومن المتوقع أن ينضم لهذا العدد نحو ربع مليون لاجئ، إضافة إلى ثلاثة أرباع المليون من النازحين، وتتدفق أعداد من اللاجئين اليوم على العراق ولا سيّما إقليم كردستان، وعلى لبنان والأردن وتركيا، إضافة إلى مصر ودول أخرى. ومن المؤكد أن العالم يجازف بتغاضيه الخطير عن الكارثة الإنسانية السورية.
غير أن هناك معضلة أمام عملية توزيع المساعدات على اللاجئين؛ حيث يتطلب القيام بذلك تبيانًا صادقًا للأماكن التي تشتد فيها الحاجة إلى المساعدات أكثر من غيرها، ومَن بالضَّبْط يجب أن يكون مسؤولاً عن تلبيتها. وهذه المهمة هي أكثر إلحاحًا؛ لأن نطاق الأزمة الإنسانية في سوريا يجعل منها قضية «استراتيجية» بقدر ما هي قضية «أخلاقية».
ونلاحظ أنه يقدَّم حاليًا النصيب الأكبر من المساعدات الإنسانية الدولية المعدّة للاجئين والمشردين السوريين إلى الفارّين من البلاد، ومعظمهم فروا إلى الدول المجاورة (تركيا والأردن ولبنان والعراق ومصر)، وهم بحاجة ماسة إلى هذه المساعدات ويكافحون من أجل البقاء في ظل الظروف الصعبة بل اليائسة، ونعلم جيدًا أن البلدان المضيفة ومنظمات المجتمع المدني المعنية والجهات المانحة الأجنبية تبذل جهودًا حثيثة لإعالة طوفان اللاجئين المتنامي.
بيد إن عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة داخل سوريا نفسها هو أكبر من ذلك؛ وتقدّر الأمم المتحدة أن هناك نحو مليوني شخص مشردين داخليًا؛ وهناك تقديرات موثوقة أخرى تشير إلى أن العدد الحقيقي هو أعلى من ذلك.
وبعبارة أخرى، اضطر أكثر من ثلاثة أضعاف من عدد السكان الذين تم إجبارهم على عبور الحدود بحثًا عن الأمان أو القوت، إلى النزوح من منازلهم داخل سوريا، كما أن هناك مليوني سوري آخرين لا يزالون في منازلهم ويُعتقد أنهم بحاجة إلى الغذاء والوقود والدعم الطبي، وغير ذلك من المساعدات الإنسانية الطارئة.
ولهذا فإن مأساة اللاجئين أخذت بالتفاقم وتنذر بعواقب وخيمة وتدهور للأوضاع، في ظل استمرار وتصاعد الحرب النفسية والحصار الاقتصادي والصدام المسلح، فضلاً عن احتمالات تأمين ملاذ آمن، أو حظر جوي، طالما بقيت القوى الدولية على خلاف كبير بشأن التوصل إلى حل لإنهاء الأزمة السورية، بما فيه تغذية أطراف النزاع بالسلاح وأنواع الدعم المختلفة.
وما يعاظم المأساة السورية هو أن أكثر من 52% من اللاجئين هم من الأطفال دون السابعة عشر من العمر، ولعل حجم هذه المأساة أخذ في الاتساع على مستوى النازحين داخل سوريا أيضًا، فوفقًا لإحصاءات تعود إلى نهاية شهر أغسطس الماضي 2013، نشرها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فإن عددهم بلغ أربعة ملايين وخمسة وعشرين ألف نازح.
وما حدث خلال الفترة الماضية في سوريا عمومًا، سواء ما تعلق باستخدام السلاح الكيميائي أو مهاجمة الكنائس والأديرة وقتل رجال دين ومواطنين مسيحيين، ما هو إلا جزء من انعكاسات الأزمة السورية المستفحلة التي أدّت إلى تمزيق الكيان المجتمعي والوحدة الوطنية وارتفاع منسوب العنف والإرهاب.
وبعد، هل هناك ضوء في نهاية النفق، لا سيّما من الناحية الإنسانية، وانطلاقًا من اللوائح الدولية لحقوق الإنسان، بما فيها حقوق اللاجئين؟
وإذا كانت أرقام اللاجئين السوريين مخيفة، خاصة بحجم تأثيراتها على دول الجوار، في الجوانب الصحية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والأمنية والمالية وسوق العمل وارتفاع معدلات الجريمة والتطرّف، فإن علينا معرفة نتائجها الآنية والمستقبلية على المجتمع السوري، وعلى مجمعات اللاجئين أنفسهم، لا سّيما أوضاع الأطفال والنساء بشكل خاص، إضافة إلى الشباب، وخاصة ما يتعلق بانعدام فرص العمل والدراسة والحياة الطبيعية.
أخيرًا وليس آخرًا، لقد تصدعت سوريا بالفعل وانقسمت إلى أجزاء شتى تخضع لأنواع متباينة من التحكم والسيطرة السياسية والعسكرية، وهي حالة ربما سوف تستمر لسنوات مقبلة. وبالتالي فإن توفير المساعدات سوف يظل يمثل المشكلة الأكبر خلال المرحلة القادمة، من الناحيتين اللوجستية والقانونية؛ حيث إن التقاعس عن مواجهة هذا الدافع الأخلاقي سوف لا يؤدي إلى المزيد من المعاناة الإنسانية فحسب، بل سوف يسمح أيضًا للنظام باستخدام المعونات كسلاح للقوة الناعمة ضد المعارضة، وهذا من شأنه عدم تحقيق الجهود الرامية لتخفيف المعاناة الإنسانية.