عندما يُولدُ في الشرقِ القَمرْ
فالسطوحُ البيضُ تغفو…
تحتَ أكداسِ الزَّهرْ
يتركُ الناسُ الحوانيتَ.. ويمضونَ زُمرْ
لملاقاةِ القمرْ..
17 عامًا تمر، اليوم الخميس، على وفاة شاعر استثنائى حطم أسوار المعاجم، وفتح النوافذ العتيقة، لتقفز منها مفردات اللغة، مرتدية أثوابا عصرية، تمرح بها فى الشوارع والميادين العربية، ليشكل بمفرده، خطًا شعريًا متفردًا، تلاشى كثيرون فى ظلاله، وتبعثروا على جانبى طريقه، وضاعت ملامح قصائدهم الباهتة، عندما حاولوا مجاراته، فالأمة العربية لم تجتمع على شاعر بعد أمير الشعراء أحمد شوقى، مثلما اجتمعت على الشاعر الكبير نزار قبانى، والذى يصادف اليوم ذكرى رحيله.
بدأ كتابة الشعر وعمره 16.. فحطم أسوار المعاجم
نزار توفيق القبانى، دبلوماسى وشاعر عربى، ولد فى دمشق عام 1923 من عائلة دمشقية عريقة، هى أسرة قبانى، وحصل على البكالوريا من مدرسة الكلية العلمية الوطنية بدمشق، ثم التحق بكلية الحقوق بالجامعة السورية، وتخرج فيها عام 1945، وعقب تخرجه التحق بالعمل الدبلوماسى، وتنقل خلاله بين القاهرة وأنقرة ومدريد وبكين ولندن.
وفى 1966 ترك نزار العمل الدبلوماسى، وأسس فى بيروت دارًا للنشر تحمل اسمه، وتفرغ للشعر.
اهتم نزار فى بداية حياته بالرسم، ثم بالموسيقى والعزف، ولم يكن يدرك وقتها أنه سيمتهن الرسم بالكلمات، وأنه سيطرب أرواحنا بها، فقد بدأ نزار كتابة الشعر وعمره 16 عامًا، وأصدر أول دواوينه “قالت لى السمراء” عام 1944، وكان طالبًا بكلية الحقوق، وطبعه على نفقته الخاصة.
لنزار عدد كبير من دواوين الشعر، تصل إلى 35 ديوانًا، كتبها على مدار ما يزيد على نصف قرن، وكان أهمها ديوان “قصائد من نزار قبانى” الصادر عام 1956، حيث يعد نقطة تحول فى شعر نزار، حيث تضمن هذا الديوان قصيدة “خبز وحشيش وقمر”، التى انتقدت بشكل لاذع خمول المجتمع العربى، وأثارت ضده عاصفة شديدة، حتى أن رجال الدين فى سوريا طالبوا بطرده من الخارجية، وفصله من العمل الدبلوماسى.
وكان نزار يكتب للشعر والقصيدة فقط، ولم يكن فى حسبانه أن يشدو بكلماته بلابل الطرب العربى، وكانت البداية هى قصيدة “أيظن” عام 1960، والتى شدت بها نجاة الصغيرة، وقد فتحت هذه القصيدة الباب على مصرعيه أمام أشعار نزار، لتقفز من الديوان المقروء إلى الديوان المسموع.
كما تغنت بأشعاره أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وفيروز وفايزة أحمد وماجدة الرومى وكاظم الساهر وآخرون، ومنها “قارئة الفنجان ورسالة من تحت الماء ورسالة إلى زعيم وطريق واحد ولا تسألونى وزيدينى عشقا والحب المستحيل وأشهد وطوق الياسمين” وغيرها.
تزوج نزار بعد سنوات من انتسابه إلى السلك الدبلوماسى السورى من إحدى قريباته، وتدعى السيدة زهراء أقبيق، وأنجب منها توفيق وهدباء، ثم تزوج قبانى من السيدة بلقيس الراوى، التى التقى بها فى أمسية شعرية فى بغداد، وأنجب منها زينب وعمر، وكان ينعم معها بحب عميق لا تشوبه شائبة، حتى فقدها فى حادث انفجار السفارة العراقية فى بيروت الأمر، الذى ترك به أثرًا نفسيًا سيئًا، حتى أنه نعاها بقصيدة رائعة تحمل اسمها.
وقد مدح عمالقة الأدب العربي نزار، حيث قال عنه الأديب المصري، نجيب محفوظ، “إنه شاعر وهب حياته لمعشوقتين؛ المرأة والقومية العربية، وكتب فيهما أجمل الأشعار التي وصلت إلى قلوب الجماهير”.
فيما ذكره حسين حمزة، فى كلماته قائلًا: “أذاق العرب صنوفا من التقريظ، جامعا بين جلد الذات وجلد الحكام”.
وفى كلمات بديعة، قال الشاعر المصرى فاروق جويدة: “سوف تبقى كلماته طبولا تدق فى أزمة الصمت العربى”.
وفى 30 أبريل 1998، رحل عن عالمنا الشاعر الكبير نزار قبانى عن عمر يناهز 75 عامًا، قضى منها أكثر من 50 عامًا فى الحب والسياسة والثورة، لكن أبى جسده إلا أن يرقد فى حضن أمه دمشق، التى شكلت وجدان الشاعر نزار قبانى.