إذا تنافس كبيران على سوق فأمامها اختياران : الصراع أو الاتفاق، ويؤدي اختيار “الاتفاق” إلى إنهاء التنازع، أما اختيار “الصراع” فيؤدي لنشوء اختيارين جديدين: “صراع أو اتفاق”، وهكذا حتى يتفق الطرفان أو يقضي أحدهما على الآخر تمامًا.
فإذا دخلت شركة جديدة سوقا ما، فإنها إما أن تتفق مع الشركاء القدامى على تقسيم السوق، أو تبدأ الصراع وتنشأ حروب أسعار وتنفق ببذخ على الدعاية وتستقطب كفاءات الشركات القديمة بأجور أعلى، وينتهي الأمر بالاتفاق على توزيع حصص السوق، بعد خسارة الكثير في الحرب، أو بخروج أحد أو بعض الشركاء من السوق نهائيًا.
وشركات خدمات المحمول المصرية نموذج تطبيقي واضح لهذه النظرية التي يدرسها طلبة الاقتصاد السلوكي والاقتصاد الصناعي.
وقد شهد العالم في السنوات الأخيرة ـ ولا يزال ـ صراعا بين الكبار على السوق العالمية، أمريكا والصين والهند ودول أخرى، والسلاح المستخدم في الحرب الآن هو الحمائية، فكل طرف يسعى بجد لتأمين سوقه الاستهلاكية الكبيرة من غزوات الخصم، ثم يبدأ في إرسال الضربات التصديرية.
منذ بداية حملته الانتخابية تعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باستعادة الوظائف التي التهمتها حرية التجارة، فالعديد من الأمريكيين فقدوا وظائفهم نتيجة فتح حدودهم لبضائع رخيصة الثمن قضت على صناعات أمريكية على مدار العقود الماضية.
ورغم أن 40% من قادة الأعمال الأمريكان، الذين استطلعت الفايننشال تايمز، آراءهم يرون أن الإجراءات الحمائية ستضر بأعمالهم، لأنها ستؤدي لصعوبة وصول المنتجات الرخيصة، أو وجودها محملة بالرسوم المرتفعة، وسيمرر المنتجون المحليون زيادة التكلفة للمستهلك عبر زيادة أسعار المنتجات النهائية، كما أن الدول التي تفرض الولايات المتحدة رسوما على صادراتها لن تقف مكتوفة الأيدي، ولكن ترامب أكمل السير في طريقه، وحقق نجاحا كبيرا بإعادة تأسيس اتفاقية التجارة الحرة لدول قارة أمريكا الشمالية.
ترامب استخدم الحمائية كورقة ضغط وليست غاية، وفي انتصار كبير لخطته، فرض رسوما على صادرات كندا والمكسيك إلى الولايات المتحدة، وأوقف رحيل رؤوس الأموال من الولايات المتحدة إلى المكسيك، ما اضطر الشريكين للإذعان وقبول اتفاق التجارة الجديد، الذي يُعظم مكاسب الولايات المتحدة.
ولكن الصين تختلف عن المكسيك وكندا، نعم لا تستطيع الاستغناء عن المستورد الأكبر لسلعها، ولكنها استطاعت فرض رسوم تجارية كبيرة على البضائع الأمريكية عندما فرضت أمريكا رسوما تجارية كبيرة على البضائع الصينية، ولكن أزمة “هواوي” أظهرت أن اللاعبين يريدان الصراع لفترة أطول.
فإلى جانب كونها صاحبة ثاني أكثر العلامات التجارية مبيعًا في عالم الهواتف المحمولة، فإن “هواوي” هي أكبر شركة لمعدات الاتصالات في العالم، وتدعي الولايات المتحدة أن “هواوي” تستخدم البنية التحتية التي تنشئها خارج الصين لأغراض التجسس، وهددت بمنع التعاون الاستخباراتي مع الدول التي تعتمد على بنية تحتية تكنولوجية وشبكات جيل خامس من الاتصالات تنشئها “هواوي”.
على الجانب الآخر عرضت “هواوي” عقد اتفاقيات عدم تجسس مع الدول المتخوفة من التعاون معها، فقام ترامب بفرض قيود على تعاملات شركة “هواوي تكنولوجيز” مع شركات التكنولوجيا والإلكترونيات الأمريكية، ما أدى إلى إعلان شركة “جوجل” الأمريكية وقف تحديث التطبيقات ونظم التشغيل بهواتف “هواوي”، فأعلنت “هواوي” إطلاق نظام تشغيلها الخاص، الذي طورته منذ 2012، خلال أقل من عام، كما زادت المخاوف من تأثر إمدادات “أبل” الأمريكية من هذه القرارات، لأن مركز صناعتها الرئيسي في الصين، وأكبر عدد مستهلكين لبضائعها في الصين أيضًا.
يستحيل تصور أن ينتهي الصراع الحالي بين الولايات المتحدة والصين بضربة قاضية أو بتخارج الشركات من أسواقها المليارية، في النهاية سيتصالح الطرفان، ولكن بأي تكلفة وهدر للوقت؟
أثناء إعادة صياغة اتفاقية التجارة الحرة بأمريكا الشمالية، سارعت المكسيك للاتفاق، لأن اقتصادها لا يتحمل كثيرًا الصراع مع الولايات المتحدة، ثم لحقت كندا، القوية نسبيًا، بالاتفاق، فإلى متى سيمتد الصراع بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم؟