بدا واضحا في خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام مجلس النواب، عقب أدائه اليمين الدستورية لفترة رئاسية جديدة، أن أولويات مختلفة تطل برأسها في الولاية الجديدة، فبعد إنجاز قائمة طويلة من المشروعات القومية الكبرى، ترى الدولة أنها كانت ضرورة ملحة، لتمهيد الطريق أمام استثمارات قادمة، ووسيلة لضخ دماء في شرايين اقتصاد منهك بفعل ظروف الاضطراب السياسي والأمني، يبدو أن الدور جاء على الاهتمام بالعقل المصري الذي ظلت ملفاته وقضاياه في مرتبة تالية للمشروعات والإنجازات الاقتصادية في الولاية الأولى.
حديث الرئيس السيسي كان واضحا، وقد حدد الأولويات في: بناء الإنسان المصري، وإعادة تعريف الهوية المصرية بعد العبث بها، وتنمية سياسية حقيقية، ومساحات للتوافق والسلام المجتمعي باستثناء من اختار العنف والإرهاب والتطرف سبيلا لفرض رأيه وسطوته.
الرئيس تعهد أيضا بأن تكون تلك الأولويات موضع اهتمام الدولة في المرحلة المقبلة، عبر حزمة من البرامج والمشروعات والقرارات، بموازاة ما تحقق من إنجازات اقتصادية.
والحقيقة أن إدراك الدولة أهمية تلك الأولويات، وإن تأخر الاهتمام بها، يبدو أمرا محمودا وإيجابيا، لكن الحماس والرغبة الرسمية ليست كافية لتحقيق إنجاز حقيقي في هذا الشأن.
فإذا كان تحقيق إنجازات يمكن قياسها والتباهي بها في مجال مشروعات البنية التحتية والخدمات أمرا يسيرا، فإن تحقيق أي إنجاز ملموس في مجال بناء العقل، وإعادة تشكيل الهوية المصرية ومنظومة القيم، أو حتى تسجيل تقدم ما في ملفات مثل التعليم والصحة والثقافة يبدو أمرا أكثر صعوبة.
ولا نبالغ إذا قلنا إنه يحتاج إلى استثمارات تتجاوز في قيمتها ما أنفق على مشروعات البنية التحتية مجتمعة، فضلا عن الحاجة إلى بناء رؤية متماسكة لما نريد أن يكون عليه العقل المصري مستقبلا.
فبناء مدرسة قد يستغرق شهورا، لكن بناء العقول يحتاج إلى سنوات، وربما إلى عقود، فالاستثمار في العقول هو الأصعب والأكثر تكلفة، لكنه السبيل الآمن لبناء المستقبل الحقيقي للدولة.
إن واحدة من الضرورات الملحة التي ينبغي النظر إليها بدقة إعادة تشكيل النخب السياسية والثقافية والعلمية والإعلامية الموجودة على الساحة حاليا، والتي تتحمل ـ بشكل أو بآخرـ جزءا كبيرا من المسئولية عما وصل إليه العقل المصري اليوم.
وإذا كان الرئيس والدولة عازمين على إحداث تحول نوعي في أولويات المرحلة المقبلة، ليكون بناء الإنسان المصري في المقدمة، فعليهم أن ينشغلوا بإعادة تكوين النخب التي تتولى عملية الإصلاح، قبل أن ينشغلوا بتدبير الاستثمارات المطلوبة لتمويل الإصلاح.
ويتعين على الدولة أن تبدأ تأهيل الرأي العام لتقبل فكرة أن تغذية العقول لا تقل أهمية عن متطلبات البطون، في وقت تحتل فيه الاحتياجات المعيشية المرتبة الأولى في سلم أولويات المواطن البسيط، الذي ربما ينظر إلى مصطلحات مثل الوعي والهوية والعقل على أنها “كلام مثقفين” ورفاهية لا تسمح بها ظروف الحياة القاسية.
ولعل الوصول إلى ذلك التوازن، وهذا التوافق المجتمعي هو التحدي الأكبر والأصعب أمام الدولة، فمعركة بناء الإنسان هي “الجهاد الأكبر” مقارنة بكل ما تحقق.