معظم أهل الصعيد لا يزالون معتمدين على دستور “العُرْف” السارى على الكبير قبل الصغير، مستبدلين بقاعات المحاكم دوَّار العمدة ، وبالقضاة محكَّمين لا خلاف عليهم، وبجلسات العدالة جلسات عرفية للفصل فى النزاعات.
1 – محكَّمون .. لا خلاف عليهم
هيئة المحكمة هى هيئة مكوَّنة من شخصيات لا خلاف عليها سواء كانوا أصحاب مناصب رفيعة أو حتى يعملون فى أكثر المهن تواضعا، أغلبهم حاملون لكتاب لله، ودائما ما يجتمعون داخل دوار العمدة أو منزل إحدى الشخصيات الكبيرة فى البلدة، للجلوس والاستماع إلى المشكلات التى قد يعجز القضاء العادى فى حلها، وإصدار الأحكام التى لا مجال فيها للطعن أوالرفض أو التأجيل، فحكمها واجب النفاذ فى التوّ والحال.
هناك عديد من المشكلات التى قد يعجز القضاء العادى فى التعامل معها، كالتى لها علاقة بالأعراض أو القتل أو التشهير أو المشكلات بين مسيحيين ومسلمين، أو حتى المشكلات الأسرية، ولكن ينجح القضاء العرفى فى علاجها وتمهيد الطريق لإعادة الحياة بشكلها الطبيعى بعد أن يحصل المجنى عليه على حقه الذى يقره المحكَّمون والحصول على كل ضمانات عدم تجدُّد المشكلة.
قد يصر أطراف الخصومة على إحضار محكَّمين بعينهم، وعددهم لا يتجاوز عشرة أشخاص على مستوى الصعيد بطوله وعرضه، يأتى على رأسهم العمدة لملوم عمدة قرية بالمنيا، وسلامة مدكور أكبرمحكَّمى محافظة بنى سويف، ومحمد علام البرلمانى السابق عن دائرة سوهاج، والدكتور محمد زين العابدين المدرس بكلية الزراعة فى جامعة أسيوط، ومحمد أبوعمار العامل بإحدى المدارس الحكومية، ومأمور مركز جهينة بسوهاج العميد بهى الدين عبدالفتاح.
2- وقائع جلسة عرفية
غالبًا ما تبدأ الجلسات بعد الانتهاء من صلاة العشاء فى أحد المنازل التى تسع أعدادًا كبيرة.
هيئة التحكيم تجلس فى منتصف الجلسة وعلى يمينها كبار العائلة الأولى وعلى يسارها كبار العائلة الثانية، بينما يجلس الأشخاص المتسببون فى المشكلة أمام هيئة التحكيم مباشرة.
المنزل الذى تُدار فيه الجلسة يكون مُحاطًا بأعداد غفيرة من العائلات المختصمة ومن ينتسبون إليهم وحتى جيرانهم وأصحابهم، يفصل بينهم مجموعة أخرى من الخفر ، أو تشكيلات أمنية إذا كانت الخصومة بين عائلات كبيرة،أو ذات طبيعة ثأرية.
أحد المحكَّمين يتلوبعض الآيات من القرآن التى تحثّ على العفو والتسامح والمحبة، وبعد أن تنتهى قراءة القرآن ينبهّ أحد هيئة التحكيم الجميع بعدم الحديث أو التعليق على ما يقال، حتى لا تسجَّل عقوبة على أحد العائلتين، وغالبًا ما تكون عقوبة مادية، وتصل إلى ألف جنيه للكلمة الواحدة. هيئة المحكمة تطلب من الجانى أن يشرح تفاصيل المشكلة بعد أن يضع يده على المصحف الشريف ليُقِر بأنه سوف يقول الحقيقة، أو الكتاب المقدَّس إذا كان طرف المشكلة مسيحيًّا، دون أن يعلق أى من الحضور على ما يقوله سواء بالنفى أو التأكيد.
وبعد أن تنتهى من الاستماع إلى طرفَى المشكلة تستمع إلى الشهود الذين قام طرفا الخصومة بإحضارهم لتقديم الشهادة ، لتدخل هيئة التحكيم إلى إحدى الغرف لتقرر مَن المخطئ الحقيقى وما الغرامة التى توقَّع عليه وما ضمانات عدم تكرار المشكلة بين طرفى الخصومة.
كبير الحكام يخرج ليطالب الجميع بالإنصات لسماع الحكم الذى توصلت إليه هيئة المحكمة العرفية، وغالبًا ما تكون هذه الأحكام مادية يتم دفعها فى التوّ والحال بعد خصم عدة مبالغ، فإذا كان المبلغ المطلوب دفعه هو ٢٠ ألف جنيه يُخصَم ٢٠٠٠ جنيه إكرامًا للمحكَّمين و ٢٠٠٠ جنيه إكرامًا لصاحب المنزل ليصبح المبلغ المطلوب سداده ١٦ ألف جنيه. وهناك من يتنازل عنها فى أثناء الجلسة أو بعدها بعدة أيام، وهناك من يرفض الحصول عليها من الأساس، لتطلب بعدها هيئة المحكمة توقيع كلا الطرفين على إيصالات أمانة تصل إلى ٥ ملايين جنيه تكون بحوزة الحكام لضمان عدم تعرض أى من الطرفين للآخَر. بعد توقيع إيصالات الأمانة يتصافح أطراف الخصومة ويقرؤون الفاتحة ويُقِروُّن أنهم لا يحمل بعضهم ضغينة لبعض.
3- التار ولا العار
هى جلسات تحتاج إلى محكَّمين ذوى طابع خاص، نظرا إلى العقيدة الراسخة فى عقول»الصعايدة « حتى المتعلمين منهم، بأنه لا يمكن التنازل عن الدم حتى لا يلحق بهم العار، وتُعَدّ مشكلات الثأر ضمن المشكلات التى يفشل القضاء العادى فى حلهّا، لأن الحكم الذى يحصل عليه القاتل لا يُرضِى أو يشفى غليل أهل المجنى عليه، وغالبًا ما تنتهى مشكلات الثأر إما بدفع مبالع مالية تصل إلى مليون جنيه يصحبها تقديم شقيق القاتل بكفنه لأهل المقتول، وإما بتقديم الكفن فقط فى ظل حضور بعض القيادات الأمنية وكبار وعمد المنطقة.
4 – التهجير .. عقوبة الفتنة الطائفية
تُعَدّ المشكلات الطائفية أكبر المشكلات التى يمكن أن تتعامل معها هيئة التحكيم لوجود من يحاولون أن ينفخوا فى النار لإشعالها من كلا الطرفين، هناك من يعتبر أن أخطر المشكلات التى لا يجب أن لا تتدخل فيها الأحكام العرفية هى التى تتعلق بالمسلمين والمسيحيين لأنه غالبًا ما يتحامل المحكَّمون على الطرف الأضعف، وهو الطرف المسيحى، مما يزيد حالة الاحتقان الطائفى، وتصل الأحكام فى هذه المشكلات إلى حد التهجير القسرى، وكان آخرها ما تعرضت له إحدى الأسر المسيحية بإحدى قرى المنيا بعد أن أجرى صيدلى مسيحى مقارنة عبر موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك بين الدكتور محمد البرادعى والداعية السلفى أبو إسحاق الحوينى، لتقرر هيئة المحكمة طرده من البلدة مقابل عدم الاعتداء عليه أو أسرته أو الصيدلية التى يمتلكها.
5 – الخصومة فيها حريم
المشكلة فيها حريم هى جملة تعنى كثيرًا، لأن كلام المرأة عند الحكام لا جدال فيه، ولا يمكن تكذيبه أو تأويله، وهى مشكلات ذات طابع خاص، وطول فترة الخصومة يزيد الأوضاع سوءًا، لأنه، حسب طبيعة المجتمع الصعيدى، أمر خطير يمكن أن يتسبب فى بحور من الدماء، وهو ما يدفع بعض المحكَّمين إلى الذهاب إلى طرفَى المشكلة للجلوس فى جلسة عرفية لإنهاء الخصومة بأى ثمن وبأى شكل.
نموذج لجلسة عرفية
1- المحكَّمون يجلسون فى المنتصف وعلى يمينهم ويسارهم كبار العائلتين المختصمتين.
2- الأشخاص المتسببون فى الخصومة يجلسون أمام هيئة التحكيم مباشرة.
3- خفر وقوات أمنية تفصل بين أهل العائليتن وأنصارهم خارج منزل الجلسة.
4- هيئة المحكمة تتلو آيات من القرآن وتحثّ الحاضرين على عدم المقاطعة.
5- الاستماع إلى أطراف الخصومة بعد القَسَم على المصحف أو الكتاب المقدَّس.
6- سماع الشهود.
7- هيئة التحكيم تدخل إحدى الغرف للمداولة.
8 – النطق بالحكم