” القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، والعالم العربي يقرأ ” مقولة شهيرة انتشرت على مدى عقود لتصف ما كانت تتمتع به القاهرة من حضور فكري وثقافي كبيرين، وقوة ناعمة تجاوزت في تأثيرها الكثير من أدوات القوة الصلبة، وصنعت لمصر مكانة مركزية في صناعة العقل والوجدان العربي، ما أتاح لها – إضافة إلى عوامل أخرى- قيادة إقليمية كانت ولا تزال محل غيرة من جانب قوة إقليمية منافسة.
والقوة الناعمة في أبسط تعريفاتها تعني القوة الروحية والمعنوية المتجسدة في الأفكار والأخلاق والمبادئ من خلال الدعم الذي تقدمه في مجالات الثقافة والفن علاوة على إعلائها العديد من القيم السياسية، ما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والثقة فيه ثم اتباعه، وقد أصبحت قوة الدول تقاس بمدى توظيفها لأدواتها الثقافية وقيمها السياسية وتاريخها الحضاري، وليس فقط بمقدار الناتج القومي ولا ما تمتلكه من قدرات عسكرية.
وقد كان الاقتصاد والحرية هما جناحا ازدهار القوة الناعمة لمصر، ومن يقرأ تاريخ الفنون في مصر، أو قوة مصر الناعمة، سيجد أن تطورها وازدهارها مرتبطان بهذين العنصرين.
وتصنف القوة الناعمة المصرية بأنها ثلاثية الأبعاد ترتكز على (اللغة، والتاريخ، والثقافة)، كما تمتلك الموقع الجغرافي في قلب العالم، فضلًا عن المؤسسات الدينية البارزة كالأزهر والكنيسة الأرثوذكسية بما يمنحها مكانة دينية وروحية رفيعة، لكن نظرة سريعة ومقارنة بين ما كانت عليه قوة مصر الناعمة على مدى عقود وما باتت عليه اليوم، تكفي لأن ندرك مدى التدهور الذي أصاب ترسانة القوى الناعمة المصرية، فقد فقدت جاذبيتها بعدما توقفنا عن توليد قوى ناعمة جديدة.
ولعل متابعة متعمقة لما وصل إليه حال معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي افتتحت دورته التاسعة والأربعين مطلع الأسبوع الجاري، والذي يعد التظاهرة الثقافية الأبرز في مصر، يكشف جانبا مهما من ذلك التراجع الثقافي كما وكيفا، فبعدما كان المعرض يحظى بإقبال المئات من الناشرين العرب والأجانب، باتت المشاركة هزيلة مقارنة بمعارض عربية أخرى، فضلا عن تراجع الاهتمام الرسمي بالمعرض، فقد كان المعرض المناسبة الأبرز للقاء القيادة السياسية مع المثقفين، ومنصة مهمة للتواصل الجماهيري، بينما لم تحظ دورة المعرض الحالية باهتمام رسمي يذكر.
وإذا كانت القوة الناعمة، تمثل رأسمالا سياسيا مهما للدولة على الصعيد الإقليمي والدولي، وسلاحا قويا تستخدمه السياسة الخارجية، فإنها يمكن أن تمثل أيضا استثمارا ذا عائد كبير، فعلى سبيل المثال بلغت إيرادات الأفلام الأمريكية في ٢٠١٦ نحو ١١٫٤ مليار دولار، كما صارت السينما الهندية مصدر دخل رئيسي لاقتصاد نيو دلهي، ونجحت تركيا في تحويل أعمالها الدرامية إلى عنصر جذب سياحي فعال، فضلا عن ترسيخ حضور ثقافي في المجتمعات العربية التي باتت محل اهتمام سياسي مكثف من قبل أنقرة.
في المقابل، نجد أن صناعة الثقافة والفنون في مصر بكل روافدها، تتراجع بشكل ملحوظ، وقد عاشت تلك الصناعة ٧ سنوات عجاف منذ ٢٠١١، فبعدما كان قطاع الإنتاج السينمائي يحقق في الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي أرباحاً تفوق أرباح صناعة النسيج، نجد ان صناعة السينما المصرية في ٢٠١٧، لا تزال تتخبط بين ضعف الإيرادات وتدني المستوى الفني، ولم تكن صادرات مصر من الكتب والمصنفات الفنية أحسن حالا، فقد سجلت خلال الشهور التسعة الأولى من عام 2017 نحو 8 ملايين دولار مقابل 17 مليون دولار بنسبة تراجع 55% .
خيار استعادة مصر لترسانة القوة الناعمة، لم يعد رفاهية، بل صار وفق متغيرات المعطيات الإقليمية والدولية ضرورة قصوى، فالقوة الناعمة يمكن أن تعيد لمصر مكانة مفتقدة على الساحات العربية والإفريقية والإسلامية، فضلا عن أن تلك القوة تمثل السلاح الأقوى لمواجهة كافة أشكال التطرف والعنف والإرهاب، لكن بناء القوة الناعمة لا يمكن أن يكون بقرار فوقي، أو برفع شعارات، لكن الأمر يتطلب مناخا داعما لإطلاق الطاقات الفكرية والإبداعية داخل المجتمع، ووجود إرادة سياسية وشعبية تدرك أن بناء القوة الناعمة يبدأ من الداخل أولا.