فى المنزل الذى يدعى “لوريان” بممفيس فى أتلانتيك جورجيا بالولايات المتحدة الأمريكية، والذى يحوى فى طابقه الثانى ممرًّا خارجيًّا أشبه بشرفة تطل على الشارع..
وقف مارتن لوثر كينج يوم الرابع من أبريل ١٩٦٨ ، مرتديًا بدلة سوداء، كان متأهبًا للذهاب لقيادة مسيرة مطلبية جديدة، وبينما كان يسند ذراعيه إلى جدار تلك الشرفة متحدثًا إلى مساعده الموجود بالأسفل، سُمِع دوى إطلاق نار، وإذا بكينج يسقط على الأرض، والدم ينفجر من عنقه.
لقد أسرع مساعدوه نحوه لنجدته.. لقد مر وقت وجيز شغل بمحاولة إنعاشه.. لكن الأمر عمليًّا كان قد انتهى، لقد سقط زعيم حركة الاحتجاج المدنى الأشهر فى التاريخ قتيلًا.
بالقرب من موقع الحادثة وعقب إطلاق الرصاصة، كان رجل نحيل ذو بشرة شاحبة يركض فى الشارع، بندقية أخفاها داخل قماش لفّه حولها، وما لبث أن ترك ما كان يحمله فى يده بعد أن أدرك أنه يعيق حركته، واستأنف ركضه ليفر بعدها إلى خارج البلدة ثم إلى لندن.
لقد مثلّت عملية اغتيال مارتن لوثر كينج واحدة من أشهر عمليات الاغتيال فى العالم، والتى تحدث عنها التاريخ، وسعى محللون إلى التعرف على خباياها وأسرارها، لم تكن العملية التى هزت أمريكا أقل صخبًا من عمليات اغتيال أربعة من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية الذين كان آخرهم جون كنيدى، بل ربما أكثر تأثيرًا لما تلاها.
ففى نفس الليلة وعقب اغتيال كينج انفجرت غضبًا أعمال العنف فى كثير من مدن الولايات المتحدة الأمريكية، وفى يوم الأحد ٧ من أبريل، استُدعى الآلالف من رجال الحرس الوطنى فى واشنطن، وفرض حظر التجوال واعتقل الألوف بعد نشوب مئات الحرائق.
حافلة كانت البداية
فى عام ١٩٥٥ وداخل حافلة عامة تسير فى إحدى مناطق الولايات المتحدة، طلب رجل أبيض من امرأة من أصول إفريقية القيام من كرسيها ليجلس هو مكانها، لكنها رفضت فاحتجّ واستشاط غضبًا كون هذه السيدة لم تلبِّ قواعد عنصرية كانت متبعة آنذاك.
لقد اتصل الرجل الغاضب بالشرطة التى ألقت القبض على السيدة بتهمة ارتكاب مخالفة، لأنها خالفت سياسات عنصرية كانت متبّعة فى الولايات المتحدة الأمريكية، منذ أن جلب الأمريكيون الأفارقة للعمل بالبلاد كعبيد، وحتى بعد إلغاء العبودية، ظل أصحاب البشرة السمراء فى الولايات المتحدة الأمريكية تتم معاملتهم كأناس من درجة أقل، محظور عليهم الوجود فى أماكن معينة ويحظون بحقوق أقل من نظرائهم البيض، حتى إن بعض المطاعم كان يُكتب عليها غير مسموح للسود والكلاب .
على إثر هذه الحادثة، صعد نجم مارتن لوثر كينج فى سماء العالم، كأحد أبرز الناشطين ضد سياسات التمييز العنصرى، مطالبًا بالمساواة فى الحقوق المدنية والسياسية متبّعًا سياسات للنضال السلمى من أجل إجبار السلطة على الاعتراف بحقوق السود، فعلى خلفية حادثة تلك المرأة، طالب كينج الأميركيين من أصول إفريقية بمقاطعة شركة الحافلات لمدة عام، وهم الذين يمثلّون نسبة كبيرة من الركاب، الأمر الذى أضر كثيرًا بإيرادات الشركة.
لقد اعتقل كينج ومجموعة من زملائه بتهمة التدبير لمؤامرة بتعطيل العمل ، ثم تقدّمت أربع من السيدات من ذوات الأصول الإفريقية بطلب إلى المحكمة الاتحادية لإلغاء التفرقة فى الحافلات فى مونتجومرى، وأصدرت المحكمة حكمها
التاريخى الذى ينص على عدم دستورية هذه التفرقة، وعندئذ طلب كينج من أتباعه إنهاء المقاطعة والعودة لاستخدام الحافلات.
لم يكن شعار الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما لدى حلم i have a dream بمثابة إبداع من بنات أفكاره، لكنه كان بمثابة استعادة للشعار الذى أطلقه لأول مرة مارتن لوثر كينج، فى واحدة من أشهر خطبه لدى حلم بأنه فى يوم من الأيام أطفالى الأربعة سيعيشون فى بلد لا يكون فيه الحكم على الناس بلون جلدهم، لكن بما تنطوى
عليه أخلاقهم.
فى الثامن والعشرين من أغسطس عام ١٩٦٣ ، نظّم كينج بمساعدة ست منظمات معنية بالحقوق المدنية مسيرة حاشدة إلى العاصمة واشنطن، للمطالبة بالحق فى الحصول على وظائف على نحو متساوٍ وأيضًا بالحرية، وقد شارك فى المسيرة ٢٥٠ ألف شخص، منهم نحو ٦٠ ألفًا من البيض، واتجهت صوب نصب لينكولن التذكارى.
لقد واصل السود وعلى مدار سنوات فى الولايات المتحدة الأمريكية نضالهم ،محققين نتائج وانتصارات متراكمة مرحلية، وفى عام ١٩٦٤ ، صدر قانون حقوق التصويت الانتخابى الفيدرالى الذى أعطى السود الحق فى التصويت.
حتى وفاة كينج كانت بمثابة انتصار ومكسب جديد، لقد وقّع الرئيس الأمريكى ليندون جونسون، بعد أسبوع من وفاة كينج، قانون الحقوق المدنية الذى يضمن الحرية والمساواة بين الأعراق والألوان والجنسين فى جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، ويلزم الإدارة الفيدرالية بتنفيذ بنود ذلك القانون.
جيمس إيرل راى.. ولكن
لقد سلمت السلطات البريطانية جيمس إيرل راى، الشخص الذى أطلق الرصاص على كينج، إلى السلطات الأمريكية فى ولاية تينيسى، وقد تلقّى حكمًا بالسجن ٩٩ عامًا.
ولد جيمس إيرل راى فى مارس ١٩٢٨ فى إحدى أفقر بلدان أمريكا، لأم مدمنة الكحول، تزايد إدمانها بعد وفات ابنتها، وكان أقرب الناس إليه عندما مَثُل أمام المحكمة هو الآخر، وهو فى العاشرة من عمره بتهمة السرقة.. حياة مليئة بالمتاعب
لسارق محترف تورطّ فى واحدة من كبرى عمليات الاغتيال السياسى التى عرفها التاريخ، هكذا اتفق أغلب مَن اهتموا بالقضية من صحفيين وكتاب قضوا سنوات وأصدروا مؤلفات من أجل الوصول إلى الدوافع الحقيقية للجانى.
لقد كان لتلك الحياة البائسة كثير من الانطباعات السلبية على جيمس الطفل، الذى سعى لاحقًا لإيجاد عمل شريف فى أحد مصانع الأحذية الذى توقف إنتاجه وطرد جيمس على إثر ذلك، الشاب صاحب الميول للنازية ، وفقًا لمن سعوا لرصد حياته، انضم لاحقًا إلى صفوف الجيش، وطلب إرساله إلى ألمانيا..
وفى بداية عام ١٩٤٨ بدأ إدمانه للخمر هو الآخر، وفى أكتوبر من العام نفسه اتهم بتعاطى المخدرات وحكم عليه بثلاث سنوات بالأشغال الشاقة، لقد تخلىّ عنه الجيش وعاد جيمس إلى بيت أسرته مجددًا، ليجده فى أشد الحالات فقرًا وبؤسًا بسبب اتجاه الأب والأم نحو المزيد من إدمان الخمور.
لقد عاد للسرقة مجددًا فى عام ١٩٤٩ وسجن لمدة عامين، ثم تلقّى حكمًا جديدًا بالسجن لمدة عشرين عامًا، وقد نجح فى الهروب من السجن عام ١٩٦٧ فى عملية أشبه بتلك التى نشاهدها فى الأفلام.
هل تورطَّ FBI فى اغتيال كينج؟
من المؤكد أن نضال لوثر كينج مثَّل إزعاجًا بالنسببة إلى السلطة فى الولايات المتحدة الأمريكية، فلم يكن يحمل جون كنيدى مشاعر طيبة لمن أثار الاحتجاجات ضده على أى حال، وبالتبعية كانت زوجته، لقد نشرت صحيفة ديلى ميل البريطانية، فى سبتمبر ٢٠١١ تحقيقًا عن جاكلين كنيدى، الصحيفة أشارت إلى أن جاكلين كانت تكره مارتن لوثر كينج للدرجة التى كانت معها بالكاد تنظر إلى صورته، لقد وصفت زعيم الحركة المدنية بأنه كان رجلًا «فظيعًا» و«زائفًا» ، وزعمت أنه حضر جنازة زوجها وهو فى حالة سكر وأراد تحويلها إلى حالة من العربدة.
ربما الكراهية كانت مضاعفة لدى جى إدجر هوفر الرجل الذى أسس جهاز ال إف بى آى (FBI) ، وتورطّ فى أعمال قذرة فى مكافحة أصحاب الأفكار الشيوعية فى بلاده، وبنفس المنطق فحتى لحظة موت كينج، ظل مدير مكتب التحقيقات الفيدرالى إدجار هوفر يلاحقه ويتنصّت على مكالماته الهاتفية، ويحاول تجنيد عملاء لاختراق حلقته الداخلية.
لقد شكّل الرجل الأمنى الصارم وحدة خاصة لمتابعة كينج ورجاله، لم يكن الأمر يقتصر على ذلك فحسب، بل تطور إلى اتهامات وردود متبادلة بين مارتن لوثر كينج وجى إدجر هوفر، وهنا كشفت مكتبة جامعة كولورادو ملامح الكراهية التى حملها رئيس ال «إف بى آى» لكينج فى وقائع مختلفة وجولات مختلفة من المعارك، كان أبرزها معلومات قام هوفر بتسريبها عن مارتن لوثر كينج، واصفًا إياه بأنه يمتلك حياة خاصة غير أخلاقية ، قاصدًا علاقات خارج إطار الزواج، جمع معلومات عنها عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالى وتسجيلات من غرفة كينج الخاصة، لقد سربت تلك المعلومات إلى الصحف قبل تلقّى كينج جائزة نوبل.
لتبادل من الشتائم والتلميحات والتجسس ومكافحة التجسس، قادت فى النهاية إلى اجتماع رفيع المستوى بين الرجلين فى ١ ديسمبر ١٩٦٤ .
وإن كان هذا الاجتماع قد هدّأ تصور الجمهور للتوتر بين هذين الرجلين، فإن عمليات التنصت والمطاردة والتجسس لم تنتهِ، والمحادثات الخاصة لكينج وأسرته وأصدقائه ظلتّ محل تمحيص من قبل هوفر.
أسئلة عدة وحقيقة مؤكدة
لقد تم الكشف عن القاتل جيمس راى بعد أربعة أشهر من حادثة الاغتيال عند محاولته الحصول على جواز سفر كندى تحت اسم مستعار، ولقد تمكّن الجانى من السفر إلى لندن، ثم إلى لشبونة، ثم عاد لتحضير نفسه للقتال فى إقليم بيافرا فى نيجيريا.
وأخيرًا اعتقل فى مطار هيثرو فى لندن.
صحيح أن الجانى أقر أنه مذنب، لكن أقواله ظلتّ متضاربة وتحمل كثيرًا من الغموض، لقد أقسم على مؤامرة خلف حادثة الاغتيال، ثم عاد يقول إنه وقت الحادثة كان فى مدينة أخرى، لقد أثارت تضارب تصريحات الجانى اهتمام كثير من ممارسى الصحافة الاستقصائية والكتاب الذين تبنوّا فكرة أن تكون هناك مؤامرة .
وأصدروا كتبا عدة تطرح الأسئلة التالية:
ما الذى يدفع سارقا لأن يتحوّل إلى شخص يقوم بعملية «اغتيال سياسى» ؟! ومن أين أتى بالأموال التى دفعها لتنفيذ العملية؟ سفريات متعددة وانتقالات ذات كلفة، وجوازت سفر مزوّرة، وسيارة استخدمها، ومعدات حازها، من بينها بندقية ذات تلسكوب، كى تكون عالية الدقة، وبعد أن نفّذ العملية نجح فى الفرار خارج البلاد بشكل مذهل وعاد ليتنقل من مكان إلى آخر فى العالم!
لقد تم تجاهل كثير من الملاحظات التى سجلت من شهود إزاء الواقعة.
لقد سجل جيرالد بوسنر فى كتابه قتل الحلم الذى تحدّث عن القضية أن خلال فترة سجن القاتل والسابقة لعملية الاغتيال لم يذكر أحد، من رفقائه فى السجن، أنه قد عبرّ عن كره خاص نحو مارتن لوثر كينج، لكنه ببساطة كان يكره الزنوج عمومًا،
وقد ذكر أحدهم مرة أمام راى وبقية السجناء أن كينج فى نظر كثيرين من رجال الأعمال يستحق القتل، وذكر آخرون أن جيمس أحيانًا تحدّث عن إمكان قتل كينج مقابل النقود، فقد كان طموحه الأساسى هو ضربة ينال بها من ٢٠٠٠٠ إلى ٣٠٠٠٠ دولار والاختفاء بعيدًا فى المكسيك، وقال أحدهم إن جيمس أخبره مرة أن هناك أكثر من طريقة لكسب النقود غير سرقة البنوك، وعندما سأله عن قصده، قال إن هناك منظمة لرجال أعمال تعرض مبلغ ١٠٠٠٠٠ دولار مقابل مقتل كينج،
وعندما سأله:ما المنظمة؟ قال إنه لا يعرف لكنه سيكتشف.
وفى أثناء التحقيقات التى جرت عام ٧٦ حتى ١٩٧٩ فى جريمة الاغتيال، تم اكتشاف مجموعة أخرى ترغب فى (كينج ميتًا) وربما تلاقت مع راى فى سجن (جيف سيتى) فى أواخر عام ١٩٦٦ وبداية ١٩٦٧ ، ومن المحتمل أنها عرضت المال لقتل كينج، وقد تبين أنها عرضت مبلغ ٥٠٠٠٠ دولار مقابل قتل كينج أو التخطيط لقتله.
لقد بدا الأمر وما زال يحمل غموضًا حاولت عائلة كينج كشفه، بالدفع بمعلومات إضافية فى محاولة لفتح التحقيقات مجددًا، لكن النتيجة كانت لا شىء مجددًا.. فلا شىء فى هذا الصدد أو أى قصة متسلسلة قدّمت أو حملت تأكيدات بعينها،
لكن من المؤكد أن حياة كينج ووفاته أيضًا قد أسهمت فى تحولات كبرى فى ما يتعلق بالنضال من أجل حقوق المدنية والسياسية ضد سياسات التمييز العنصرى فى مناطق عدة من العالم، وأن الرسالة التى ما زالت منقوشة على مقبرته ما زالت تمثلّ إلهامًا بالنسبة إلى كثيرين .. حر فى النهاية! حر فى النهاية! شكرًا يا رب العالمين.. أنا حر فى النهاية!