قد تتحوَّل الأماكن إلى أطلال، لكنها تظل عامرة بذكرياتها، تبتعد عنها الخطوات فتمشى هى إلى سالكيها، تدبّ عليها الأقدام فتحفر فى النفوس دروبها، صمتها كلام وغيمها نور، رمالها ثنثر العبير، وريحها لا تمل من اللعب على أوتار القلوب.
تلك هى طرق الحج التى لم تكن مجرد مسالك عبرت عليها قوافل الحجاج الذين يأتون من كل فج عميق لزيارة بيت لله الحرام، بل هى قصة أُمَّة لوحدتها تجليات وفى قوتها الكامنة سر بقائها، فقد أسهمت فريضة الحج فى تقارب ثقافات والتقاء أفكار قبل أن تجتمع على أداء الفريضة، وشكَّلت لشعوب تلك الأمة هوية واحدة تحدَّت الصعاب وتجاوزت الاختلافات، لتصير أحد الثوابت التى اعتمدت عليها الأمة الإسلامية فى تأكيد وجودها ومصيرها ومستقبلها.
طريق الحج المصرى القديم يمثل هذا التصوُّر على مدار ١٥ قرنًا تتابعت عليه الحكايات منذ الفتح الإسلامى لمصر عبر العصور المختلفة، وشهد أبرز حوادث التاريخ التى كان مسرحًا لأهم أحداثها، وحتى الآن رغم تغيرّ معالم الطريق وتحوُّل بعض مساراته، فالذاكرة لا تنسى صورها على حائط الزمن، حيث تتجلىَّ خصوصيتها ومواطن تميّزها.
* نقطة الالتقاء
تأتى أهمية طريق الحج المصرى القديم كملتقى لمجموعة من الطرق الأخرى لحجاج المغرب العربى والأندلس وغرب إفريقيا برًّا عبر واحة سيوة ووادى النطرون وكرداسة والجيزة، أو بحرًا من خلال السفن التى كانت ترسو فى الإسكندرية، ويتجّهون جميعًا إلى منطقة بركة الحاج بالقاهرة القديمة، وتحديدًا عند باب النصر، حيث يتم تجهيز المحمل الشريف الذى يتحركَّ سنويًّا فى شهر شوال، ويخرج الناس للاحتفال بمسيرة موكب الحجيج، بقيادة أمير الحج الذى يحدّد زمن التحركُّ وأماكن النزول والراحة وإعداد قوة الحراسة وتجهيز المؤن الكافية والمياه وكسوة جِمال القافلة.
وتبدأ الرحلة فى السير حتى عجرود (قرب مدينة السويس) وكانت أشبه بسوق عربية كبيرة لتبادل البضائع القادمة من المغرب العربى وإفريقيا، ومنها إلى القلزم (السويس) ثم عيون موسى، للتزوُّد بالمياه، حتى »وادى صدر « حيث توجد ٣ عيون طبيعية، إلى أن تصل إلى »نخل « بوسط سيناء، وتعقد بها سوق كبيرة لفواكه المنطقة، وأفران الخبز وتنصب بها خيام للمبيت ويوجد بها مسجد وقلعة بُنيت فى عصر السلطان بيبرس.
وتستغرق هذه المسيرة نحو ١٠ أيام حتى تصل إلى العقبة وتنزل فى القلعة التى شيدّها السلطان الغورى، وبها مخازن للحبوب ومخبز وبئر مياه ومسجد، ومنها يتجه الحجاج إلى الأراضى الحجازية بمحاذاة البحر الأحمر للجنوب من حقل، ومدين، وينبع، وبدر، ورابغ، حتى الوصول إلى مكة المكرمة.
* طرق الحجاج.. قديمًا
تخبرنا المصادر التاريخية أن حماية طرق الحجاج وتيسير أسباب الحج للمسلمين، كانا أبرز مهام أى خلافة إسلامية، فالخليفة الفاطمى بررَّ فتحه لمصر ونقل خلافته من المغرب إليها عام ٣٥٨ه / ٩٦٩ م، بعجز الخلافة العباسية عن مقاومة الأطماع البيزنطية وانقطاع طريق الحج وتعطّله وعدم استطاعة الحجاج أداء الفريضة. وفى ما يتعلق بتأمين طريق الحج فمن المعروف أن الأمراء الصليبيين أدركوا أهمية الحج فى تحقيق الوحدة الروحية وتوثيق الروابط الاجتماعية والفكرية بين المسلمين، فلجؤوا إلى مهاجمة قوافل الحج والتجارة المصرية المارة عبر سيناء فى طريق الحجاج، مما أدّى إلى تعطُّل تدفُّق الوافدين من حجاج الأندلس والمغرب، واضطرارهم إلى تغيير مسارهم من الإسكندرية إلى الفسطاط، ثم قوص بصعيد مصر، ومنها يسيرون فى صحراء »عيذاب «، حتى يصلوا إلى ميناء عيذاب على البحر الأحمر، ثم يركبون السفن الصغيرة المعروفة ب »الجلاب « حتى ميناء جدة. وعن معاناة الحجاج فى هذا الطريق البديل يقول ابن جبير فى (الرحلة)، »كان آفة للحجاج عظيمة « وسمى ميناء عيذاب ب »العذاب .«
كان قطع الصليبيين لطريق الحج البرى عبر سيناء قد تم لهم بعد استيلائهم على حصن الكرك، مما جعل استرداد هذا الحصن من أهم أولويات صلاح الدين الأيوبى، بعد أن استقل بالسلطنة فى مصر عن نور الدين محمود، وكان أول غزوة له ليؤمِّن طريق الحج البرى بعد انقطاعه، ولقد أوضح عدد من المؤرخين أن موقعة حطين التى كانت إرهاصًا لفتح بيت المقدس سببها قطع أرناط صاحب الكرك، لطريق الحج والتجارة، مما جعل صلاح الدين يهدر دمه. وبعد فتح القدس حاصر صلاح الدين حصنَى الكرك والشوبك عام ٥٨٣ ه، وذلك لقطع الفرنجة طريق الحج، واستعصى عليه فتحهما، إلى أن استسلمت صاحبة الحصن، كما كانت أول حملة بحرية للأسطول المصرى الأيوبى عام ٥٦٦ ه لتفتح قلعة أيلة (العقبة) على البحر الأحمر، وذلك لتأمين طريق الحج والتجارة أيضًا. من هنا نرى أن طرق الحج اكتسبت أهمية استراتيجية لتأمين مكتسبات وفتوحات المسلمين من أيدى الصليبيين، لذلك كان من الطبيعى تأمين هذه الطرق وتنميتها بما يخدم الحجيج وكذلك أمن البلاد وتجارتها بشكل عام، فأنشأ صلاح الدين قلاعًا حربية مثل »قلعة الجندى « بوسط سيناء، و »قلعة باسمه « بجزيرة فرعون فى طابا. وليس أدل على أهمية تأمين طريق الحجاج مما صرحَّ به العماد الأصفهانى فى كتابه »الفتح القسى فى الفتح القدسى « من أن تأمين طريق الحج إلى مكة كان من أهم دوافع صلاح الدين لفتح بيت المقدس واسترداده من الصليبيين.
* على هامش الطريق
تتواتر الأحداث وتزداد أهمية طرق الحج على أصعدة شتى دينيًّا وأمنيًّا واستراتيجيًّا، لذلك رغم تعاقب عهود الحكم وتبيانها فى إدارة شؤون البلاد، لكن ظل المشترك فى ما بينها هو الحرص على حماية فريضة الحج وتأمين طرقها كركن أساسى فى حماية قوام الدولة، فلا عجب إذن أن يتهافت الحكام على توطيد مكانتهم وتسجيل أسمائهم فى التاريخ من خلال مآثرهم فى ما قدموه لخدمة حجاج بيت لله الحرام. وقد أجمع الفقهاء المصريون الذين ألفَّوا كتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية فى العصر المملوكى على أن تأمين طريق الحج من أهم الواجبات الشرعية التى يلتزم بها السلطان المملوكى.
وكان بعض ملوك البيت الأيوبى يتولوّن بأنفسهم نيابة عن سلطان مصر منصب إمارة لواء الحج المصرى، ومن بعدهم ظل سلاطين المماليك على نفس النهج فى إرسال كسوة الكعبة من مصر، وكان السلطان بيبرس بعد نقله مقر الخلافة العباسية إلى القاهرة أول مَن أدار محمل الكسوة الشريفة، وحج بيبرس عام ٦٦٨ ه ورتبَّ أموالاً سنوية لأميرى مكة والمدينة، وأوقف لهما أوقافًا فى مصر، لرفع كل الضرائب عن الحجاج، وطلب أن يخطب له على المنابر، وبعد أدائه الفريضة غسل الكعبة بيده بماء الورد، وعلقّ كسوتها بنفسه، ومن هنا أصبح محمل الحج المصرى رمزًا للسلطان وحمايته للحرمين الشريفين، وارتبط اسمه بهما، فظل أهم لقب يتفاخر به سلاطين المماليك ويتوارثونه هو »حامى حمى الحرمين الشريفين .«
* فرمانات الباب العالى
كالإرث الثمين، تولىَّ الحكام العثمانيون مهمة حماية الحج وطرقه، ووضعوا لهذا قواعد كانت تخرج فى شكل فرمانات من الباب العالى، يذكر عبد الرحمن الجبرتى فى كتابه »عجائب الآثار فى التراجم والأخبار «، أن أمير الحج يلتزم بتدابير ستمئة جمل وكمية محددة من المؤن الكافية للحجاج، وذلك قبل ثلاثة أو خمسة أشهر من مغادرتهم الأراضى الحجازية، حيث ترسل عن طريق العربان إلى القلاع والمحطات على طريق الحاج، وتكون كل الإمدادات جاهزة قبل شهر من رحيل القوافل، وبالإضافة إلى ذلك يرسل شيخ العرب همام من الصعيد هدية إلى قافلة الحجيج عبارة عن ثلاثمئة جمل ومقدار من المؤن يتسلمّها أمير الحاج.
ويذكر الجبرتى أن طريق الحج كان يشهد أيضًا نقل الغلال إلى الحرمين الشريفين، وكانت ضريبة الغلال تُجمع من كل قرية وتُحمل فى المراكب النيلية وتُسلمَّ فى مواعيدها إلى شون الغلال الميرية فى منطقة (مصر عتيقة)، يرسل منها أربعة وأربعون ألف إردب إلى الحرمين الشريفين، وأربعة عشر ألفًا تخصَّص لحكام مصر، والباقى يوزعَّ على رجال الدين والعلماء والأئمة والفقراء والتكايا والنساء والأرامل والجنود .
* حتى لا ننسى
شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا كبيرًا بطريق الحج المصرى بعد توالى اكتشاف جانب من معالمه الأثرية التى امتزجت بأسماء وشخصيات ووقائع شكَّلت جزءًا مهمًّا فى التاريخ المصرى والإسلامى، ورمت بظلالها على ثقافة المجتمعات العربية والإسلامية وتراث كل منها الذى ارتبط بأداء فريضة الحج، لذلك تجدَّدت الدعوات من الباحثين وعلماء التراث لإحياء هذا الطريق والحفاظ على معالمه.
وقد تضمَّنت مشروعات تنمية سيناء على مدار العقود الثلاثة الماضية خططًا لإحياء طريق الحج الذى ما زال بعض مساراته ممهدًا لعبور السيارات وعلى جانبيه معالم لمحطات وقلاع الطريق القديم التى بناها الملوك فى مختلف العهود، لتقوم على خدمة الحجيج فى مسيرتهم ذهابًا وإيابًا، وتشمل هذه الخطط إقامة المتاحف للآثار والأبنية وإقامة محطات تجارية وخدمية وفنادق ومصانع للأغذية والملابس وأسواق لهدايا الحجاج على غرار ما كان يُقام فى أثناء مرور القوافل.